في أوائل القرن التاسع عشر مع بداية الثورة الصناعية وعصر الميكنة في بريطانيا وانتشار الآلات التي تحل محل العمال في مصانع النسيج، هددت هذه الآلات مصدر رزق عمال كثيرين وأرعبتهم بشبح البطالة، فأسس النسّاج البريطاني نيد لود (Ned Ludd) حركة راديكالية عنيفة تدافع عن هؤلاء العمال سميت باللودية نسبة لاسمه. قام اللوديون بمهاجمة المصانع في يوركشاير ونوتنجهام عام 1811 وتحطيم الآلات التي قطعت أرزاق العمال، ثم انتشرت الحركة في جميع أنحاء أوروبا خاصة فرنسا وألمانيا. وانتقلت الحالة للقارة الأمريكية ولتشمل الآلات بشكل عام، إذ عارض الرئيس المكسيكي سانتانا مد خطوط السكك الحديدية حرصاً منه على مصالح أصحاب البغال، وحطم صيادون وبحارة أول مركب بمحركات بخارية لظنهم أنها ستسبب لهم البطالة.. لكن هذه الحركات سرعان ما انطفأت، بينما الوظائف لم تقل بل زادت.. الحالة تتكرر الآن، فالميكنة تتحول إلى الأتمتة، وكثر الحديث عن أنها ستحل محل العاملين وكثرت الدراسات التي تؤكد ذلك ومن أشهرها بحث ضخم نشر قبل عشر سنوات، من كارل فراي ومايكل أوزبورن بجامعة أكسفورد، زعما فيه أن 47 % من المهام التي يؤديها العمال الأمريكيون يمكن أتمتتها «على مدار العقد أو العقدين المقبلين». كذلك ذكر العديد من الرؤساء التنفيذيين لكبرى الشركات من أن الذكاء الاصطناعي سوف يتخلص من الكثير من الأعمال الجسدية التي يقوم بها العمال والأعمال المكتبية التي يقوم بها الموظفون. ما مدى صحة هذه التوقعات بزيادة البطالة مع الأتمتة؟ يبدو أن العكس صحيح أو على الأقل لن يزيد الذكاء الاصطناعي من البطالة، حسبما تشير لذلك العديد من التقارير الواقعية التي تذكر أن البطالة سببها السياسة الاجتماعية وليس الذكاء الاصطناعي .. إذ تذكر صحيفة الإيكونيميست أن المخاوف بشأن تقليص الوظائف بسبب التكنولوجيا لم تتحقق أبدًا، بل على النقيض فأسواق العمل في جميع أنحاء العالم الغني تتوسع... يوجد حاليًا شاغران لكل أمريكي عاطل عن العمل، وهو أعلى معدل مسجل، كما أن قطاعي التصنيع والضيافة في أمريكا يبلغ عن نقص في العمالة يبلغ خمسمئة ألف وثمانمائة ألف على التوالي. إذن، المشكلة مقلوبة حسب الإيكونيميست، فالإشكالات التي تواجه الاقتصادات المتقدمة ليس الكثير من الأتمتة ولكن القليل جدًا منها. وهذه المشكلة تفاقمت بسبب حقيقة أنه بالنسبة للشركات الكبيرة، كان من الصعب تطبيق الأتمتة بشكل صحيح في الممارسة العملية على أرض الواقع، ومن المحتمل ألا يكون الأمر أسهل مع التطورات المتتالية للذكاء الاصطناعي. في بداية هذا الشهر قال إيلون ماسك: «أعتقد أننا قد نتجاوز نسبة واحد إلى واحد من الروبوتات البشرية مقارنة بالبشر». أي أن عدد الروبوتات قد يصل إلى 8 مليار روبوت, هذا الطموح لخيال جامح أو شاطح يبدو بعيد المنال، إذ يوجد حالياً حوالي 3 ملايين روبوت صناعي يعمل في المصانع عبر أرجاء المعمورة، وفقًا للاتحاد الدولي للروبوتات، ويقوم 3 ملايين روبوت آخر بالعديد من العمليات الأخرى، أي أقل من واحد من الألف من زعم ماسك. يقول الدكتور كريستنسن (مدير معهد الروبوتات السياقية بجامعة كاليفورنيا): أن الوظائف التي تقوم بها الروبوتات عادة ما تكون مملة ومتكررة وشاقة؛ وبعد جائحة كورونا أصبح شغل مثل هذه الوظائف أكثر صعوبة. في العديد من الصناعات، لا تكون الرغبة في تقليل تكاليف العمالة هي التي تدفع الأتمتة بقدر ما تكون الصعوبة الكبيرة لتوظيف عمال من لحم ودم لتلك الأعمال. في الواقع، بدلًا من القضاء على الوظائف، يمكن للروبوتات أن تخلقها عن طريق جعل الشركات أكثر كفاءة، مما يسمح للشركات بالتوسع، فالتوظيف في التصنيع بأمريكا نما خلال العقد الماضي حتى مع زيادة عدد روبوتات المصانع حسبما يشير الدكتور كريستنسن. كما يوضح كيم بوفلسن، رئيس شركة يونيفيرسال روبوت أن جسم الإنسان، بمفاصله وأصابعه، أعجوبة من التنوع مع 244 مستوى حركة، بينما الروبوت النموذجي لديه ست «درجات من الحرية». الروبوتات بحاجة إلى مزيد من الدقة والبرمجة منعًا للخطأ والاصطدام بالبشر، إضافة لتدريب الناس على التعامل معها.. تقول الدكتورة جولي شاه، التي تقود مجموعة الروبوتات التفاعلية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «تؤدي معظم الروبوتات مهامًا محددة بدقة، حيث تستخدم الأجهزة المحمولة مستشعراتها لتجنب الاصطدام بالناس.. وتحتاج الروبوتات إلى رؤيتنا على أننا أكثر من مجرد عقبة أمام حركتها.. إنها بحاجة إلى العمل معنا وتوقع ما نحتاج إليه.» لذا تقوم الدكتورة جولي وزملاؤها على تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي يمكنها تعليم روبوت باستخدام أوامر اللغة الطبيعية، وبرمجة روبوتات مع شخص على دراية تامة بالمهام المطروحة، إلى جانب مهندس روبوت. يبدو أن عملًا هائلًا ينتظر علماء الروبوتات والمنظمين لتحديد كيفية عمل الآلات والأشخاص معًا فلا زال المشوار في بداياته. صحيح أنه بمرور الوقت، من المرجح أن يؤدي المزيد من الابتكار إلى إزالة بعض تلك العقبات ولكن ذلك لن يحدث بين عشية وضحاها.. أما الوقائع الحالية فتشير إلى أن العالم يعاني من قلة الأتمتة وليس من كثرتها ولا علاقة لها بتهديد الوظائف أو زيادة البطالة على المستوى العام..
مشاركة :