كانت العرب قديما تقول "الناس أربعة أصناف": * رجل يدري، ويدري أنه يدري، فذلك "عالم" فخذوا عنه.. * ورجل يدري، ولا يعلم أنه يدري، فذلك "ناسٍ" فذكّروه.. * ورجل لا يدري، ويعلم أنه لا يدري، فذلك "طالب علم" فعلّموه.. * ورجل لا يدري، ولا يعلم أنه لا يدري فذلك "أحمق" فارفضوه.. .. وحسب رأيي المتواضع يمكن لهذه الأصناف الأربعة أن تجتمع كلها في شخص واحد. فنحن نتصرف أحيانا كعلماء، وأحيانا كطلاب علم، وأحيانا ننسى أننا (ننسى) ما نتعلمه بمرور العمر.. الطامة الحقيقية أنه لا أحد يريد الاعتراف بالحماقة الأخيرة (لا ندري؛ ولا ندري أننا لا ندري)، وعلاقة ذلك بما أصبح يعرف بظاهرة داننج وكروجر.. أو حسب تعريفنا المحلي ظاهرة "المهايطة".. وكان الباحثان دايفيد داننج وجاستن كروجر من جامعة كورنيل قد أثبتا أن جميع الناس يعرفون أقل مما يعتقدون فعلا، وأن معظمهم يعتقد أنه لا يحتاج لمعرفة المزيد أصلا.. فمن خلال لقاءات قياسية مع طلاب الجامعة اتضح أن معظمهم لا يدرك أنه جاهل بنفسه، وأن معظمهم يعتقدون أنهم يعرفون ما يهم فعلا.. ومن يُقيم معرفته بهذه الطريقة (المبالغ فيها) يشبه من يسير في طريق داخل الغابة معتقدا أنه يعرف الغابة جيدا.. ولكن الحقيقة هي أنه لا يعرف غير جنبات الطريق الذي يسير عليه، ولا يدرك ضخامة المساحة المجهولة التي لا يراها من الغابة! .. وهذه المعضلة (التي أصبحت تدعى بظاهرة داننج وكروجر) تفسر لماذا يرفض ابنك المراهق سماع نصائحك ويعتبر نفسه أعلم منك - رغم خبرتك الطويلة في الحياة -، كما تفسر حالات الغرور والاعتداد بالنفس التي يبديها بعض المتقدمين للمنافسات الوظيفية أو المسابقات التلفزيونية (حيث يتصرف بعضهم بطريقة واثقة من الفوز لدرجة تثير الشفقة)! .. والحقيقة أن ظاهرة داننج وكروجر (أو عدم درايتنا بمساحة جهلنا) هي معوق واحد فقط من معوقات التفكير السليم.. فنحن أيضا نعاني عموما من عيوب في التفكير والاستنباط سببهما: التحيز، والميول، والاستشهاد بالموجود، والولاء الثقافي، وعدم معارضة الأغلبية، والتركيز على إفحام الخصم، والاستشهاد بالأكثرية (بطريقة هل أنت أعلم من كل الناس؟) والاستشهاد بالأقدمية (بطريقة هل أنت أعلم من السلف؟)، وإضفاء القدسية على الآراء الشخصية (بطريقة قال قولي هذا فقهاء الأمة)، واختطاف النتيجة لتأكيد الرأي (بطريقة ألم أخبركم بذلك من قبل)، والتنبة المفرط (الذي خصصت له مقالا تجده على النت بعنوان: لماذا أصبحت تراه في كل مكان)! .. عيوب التفكير هذه اختصرها المثل الشعبي القائل: "حين قسم الله الأرزاق لم يرض أحد برزقه، وحين قسم العقول رضي كل إنسان بعقله".. فحين قسم الله الأرزاق لم يقتنع معظمنا برزقه وغدا الغني والفقير يطمعان بتحصيل المزيد. أما بالنسبة للعقول فالأمر مختلف تماما كون كل انسان يقيم الأمور (بحسب عقله) فيتخذ من نفسه مقياسا للحكم على الآخرين ولا يتصور وجود رأي مخالف او احتمال خطأ رأيه هو.. يعتقد أنه أذكى الناس وأكثرهم دراية والوحيد القادر على حل مشكلات الكون لو تركنا له الفرصة (في حين لا يدري المسكين أنه لا يدري).. وبناء عليه؛ أعتقد أن أقرب الناس للعقل والحكمة هو من يدرك في نفسه عيوب التفكير هذه.. أكثر الناس عقلا وحكمة من يؤمن بأن أعمارنا أقصر وعقولنا أصغر من أن تصل لمستوى الفهم الكامل والنهائي في أي شيء.. حتى في كيفية تفكيرنا بشكل سليم. fwf966@gmail.com
مشاركة :