حقبة جديدة في الشرق الأوسط

  • 3/27/2023
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

على مدى السنوات الـ 12 الماضية، كانت منطقة الشرق الأوسط مصدراً لكثير من الأخبار المُقلقة في العالم؛ إذ شهدت المنطقة عدداً من الأحداث الدراماتيكية والوقائع الخطيرة، التي حولتها إلى عنوان دائم للتوتر وتصدير المخاطر. ففي مطلع العقد الماضي، اندلعت الانتفاضات العربية على طريقة "الدومينو" الشهيرة، فتقوضت دول، أو انهارت سيادتها، أو أضحت مطية للتدخلات الدولية والإقليمية، أو اندلعت بها الحروب الأهلية، التي ما زالت مفاعيلها تنشط حتى وقتنا هذا.وبموازاة ذلك، صعد الإسلام السياسي سياسياً واجتماعيا في عديد النقاط، وجلب معه احتمالات الصدام والتوتر، وخلخل الصيغ السياسية والاجتماعية في كثير من المجتمعات.ورغم أن دولاً عديدة لم تكن عرضة لوقوع الانتفاضات، فإن بعضها وجد نفسه مُلزما بالتفاعل معها، والتدخل أحياناً لنصرة أطراف سياسية أو مواجهة أطراف أخرى في دول التغيير. وأدى ذلك لاحقا إلى صراعات إقليمية، اتخذت أشكالاً مختلفة للصدام؛ بعضها تبلور في مواجهات عسكرية، أو صدامات سياسية طاحنة، ونشأت تحالفات عربية وإقليمية، سعت لإدراك التوازن، الذي كان عصياً كما اتضح. وبينما باتت المنطقة أكثر قابلية للتدخلات الأجنبية التي قامت بها دول كبرى، فإن بعض القوى الإقليمية ذات النزعات التوسعية وجدت في عقد الانتفاضات فرصة سانحة لتفعيل خططها في التوسع والهيمنة، فنشرت قواتها العسكرية، أو طورت مليشيات وفصائل عسكرية وسياسية لتنفيذ أجنداتها، وهو الأمر الذي عزز الانكشاف العربي، وقيّد قدرة الدول العربية التي ضربها التغيير على التعافي، وأرهق الإقليم. وعندما ضربت جائحة "كورونا" العالم، وطال تأثيرها العالم العربي، بدأت إرهاصات التفكير في تأسيس مقاربة جديدة للتعامل مع المستجدات الخطيرة التي ألقت بظلالها القاتمة على الدولة العربية.وبينما كانت ذيول الجائحة تنسحب، وتظهر علامات التعافي منها، برز نهج جديد في الإدارة السياسية العربية، سيكون من الصعب إنكار أن مركزه والقوة الدافعة فيه تركزت في دول الخليج العربية، التي امتلكت قدرة على اجتراح سياسات جديدة، بسبب بقائها بعيدة نسبياً عن ضربات الانتفاضات، وبفضل عوائدها المالية الكبيرة التي توافرت جراء ارتفاع أسعار النفط، وبعض القيادات الشابة التي أظهرت قدرة لافتة على صنع التغيير، وجرأة غير مسبوقة على استيعاب تكاليفه. وفي الوقت الذي كانت تعاني فيه العواصم الكبيرة تقليدياً من آثار الانتفاضات أو تكاليف الجائحة أو تداعيات الأزمات الاقتصادية المستديمة وصعوبات الإدارة، برزت عواصم التأثير الجديدة، وامتلكت زمام المبادرة، وراحت تؤسس لمرحلة مختلفة، يمكن أن تعيد رسم المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي الإقليمي. أما عناوين المرحلة الجديدة فتبدأ بعنوان الانفتاح السياسي والاجتماعي، وفي ذلك العنوان بالذات كمن التحدي الكبير؛ إذ ارتأت القيادات الإقليمية الشابة أن مجتمعاتها جُلها من الشباب، وأن استمرار الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على ما كانت عليه في العقود الأخيرة لن يكون صالحاً للمستقبل، ولن يكون قادراً على تلبية تطلعات الكتلة السكانية الأكبر بين مواطنيها. وفي هذا الصدد، تم اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة، وجرى تطويع المؤسسات أو تغيير أنساق عملها، لكي تلبي استحقاقات الانفتاح، الذي هو ببساطة تحويل المجتمعات التقليدية إلى مجتمعات طبيعية، يمكنها أن تتسق مع قطاع كبير من القيم العالمية السائدة؛ وفي مقدمتها التسامح، وقبول الآخر، وتفهم الاختلاف، والموازنة بين حرية المواطن الفرد في حياته الاجتماعية من جانب وفكرة الدولة والمجتمع عن "الثوابت" و"مرتكزات الهوية" و"التقاليد والعادات" من جانب آخر. وتركز العنوان الثاني في محاولة خفض التوترات الإقليمية والدولية إلى أقصى درجة ممكنة، وهنا ستشهد المنطقة عدداً من المصالحات والمقاربات الناعمة، وسيتصافح أعداء أقاموا طويلاً على العداوة، وستُفتح سفارات، وتُستعاد العلاقات الدبلوماسية كاملة، وستجري الرحلات الجوية بانتظام، حاملة زائرين من دول ظلت منقطعة عن التواصل والتعاون لعقود طويلة. لن تكون هذه المبادرات السياسية بلا ثمن سياسي بطبيعية الحال، بل إن بعضها انطوى على أثمان مُكلفة ومُوجعة، لكن الإرادة السياسية الصلبة كانت موجودة، بحيث تم "هدم جدران" ظلت قائمة لعقود ببساطة شديدة، وجرت العودة عن سياسات تكرست حتى باتت سمات رئيسية في السياسة والمجتمع. ومن بين العناوين الجديدة في منطقتنا سيبرز عنوان إعادة هندسة العلاقات السياسية، وسيكون التغير الأبرز في تلك الهندسة متعلق بتصفير المشاكل بأقصى درجة ممكنة، وهو أمر تحكمه رؤية واضحة تريد التركيز على الإصلاح والتطوير، وعدم استنفاد الجهد والطاقة في عداوات، ظهر أنها لم تسفر عن منتصر أو مهزوم، وأنها لم تؤد إلى حل المشكلات التاريخية أو الطارئة. أما العنوان الأخير فيكمن في النزعة التنافسية التي باتت تهيمن على مراكز التأثير الصاعدة في المنطقة، وهي نزعة لا تركز على التضاغط السياسي أو الأدوات العسكرية، لكنها تحصر مجالها في التنافس الاقتصادي بمعناه الواسع، الذي يمتد إلى تغيير أساليب الحياة، وأنساق القيم السائدة، وتنويع الاقتصاد، وضمان الاستدامة، والانخراط العالمي. وبدلاً من تركيز الاعتماد الأمني على حليف واحد كبير وقادر، راح القادة البارزون في المنطقة يؤسسون لسياسات اعتماد أكثر مرونة وتوازناً، وهو أمر سيغير شكل منطقتنا، وسيقودها إلى أفق جديد.

مشاركة :