مجموعتي الأولى التي تمارس الانكشاف الشعري الداخلي لذاتي وللخارج هذا ما ذهبت إليه الشاعرة السعودية حوراء الهميلي، وترى حين تقول: نحن لا زلنا مسكونين بجرْس القافية ورنتها، مسكونين بالقصيدة العمودية وغير متقبلين للأشكال الأخرى، وهذا ما يجعل الشاعر يعيش هذه الحيرة، مؤكدة أن القصيدة هي طفلها الذي ما إن يتشكل داخلها حتى تدلله كثيرًا، وتهندمه، وتناغيه. في هذا الحوار نسلط الضوء على جوانب مهمة في تجربة الشاعرة الهميلي فاتحين نوافذ البوح لنشمَّ رائحة الشعر وجدل الروح. تاليا الحوار: • لكل شاعرة أو شاعر لحظة توهج أو احتراق، متى أخذتك القصيدة إلى توهجها أو احتراقاتها؟ القصيدة هي ذلك الهاجس الذي يظل يعتمل تحت الأضلاع حتى تثور براكينه على سطح روحك، القصيدة هي الفكرة التي تظل مسكونًا بها حتى قبل كتابتها، ولكل قصيدة مزاجها الخاص، بعض القصائد تأتي وادعة، رقيقة، لطيفة وبعضها تأتي باحتراقاتها، بلهيبها، تلسع روحك وتخمش خديك، تكون أشبه بماي يغلي يحرق كل ما أمامه. فالقصائد في يديك مصائد كما يقول الثبيتي. • "ظمأ أزرق" أي ظمأ هذا الذي أسرى بك أزرقه في متون القصيدة؟ يقول غاستون باشلار : "لا يعرف المرء معنى الظمأ قبل أن ينهل الماء للمرة الأولى"، كل شعر هو ظمأ، كل بحث هو ظمأ، كل سؤال هو ظمأ، وكل شغف هو ظمأ، وربما أستطيع القول: إن وجودنا برمته ظمأ: ظمأ معرفي، روحي، وجداني، وما كان لون الزرقة سوى لون الأحلام، السماء، البحر، الأمنيات المؤجلة، إذن الزرقة هي لون أمانينا ولون ظمئها أيضًا. وهذه مجموعتي الأولى التي تمارس الانكشاف الشعري الداخلي لذاتي وللخارج، المغامرة الأولى التي لا مناص للنكوص عنها بعد الآن، الانكشاف على العالم بصفتك شاعرًا يحتاج للكثير من الجرأة. • حوراء الهميلي شاعرة مسكونة بعمود الشعر وتجلياته الروحية، هل القصيدة العمودية الحديثة استطاعت أن تبني على ما قدمه الشعر القديم؟ البدايات الأولى لأي شاعر تكون في محاولته إجادة الإيقاع، صعود سلَّم الخليل وبحوره والتجلي في سبحاته، بعد ذلك يبدأ الشاعر في التكشف على العوالم الأخرى، التجريب هو ديدن المبدع الحر، عدم الانغلاق على لون أو شكل هو ما يفتح له آفاقًا أرحب نعم أكتب القصيدة العمودية، وأجرب كثيرًا التفعيلة وكما تعرف أنها تمنح مساحاتٍ حرة أكثر مما تفعل قصيدة ذات الشطرين، ولكل لون فني جمالياته وصفته الخاصة. والقصيدة العربية لا زالت تطور نفسها مُحَاوِلةً الانكشاف على العوالم الخارجية، وهذا تطور إيجابي وصحي. وهذا شأنه شأن الفنون والآداب منذ النشأة الأولى، شأنها شأن الإنسان الذي يطور أدواته متماهيًا مع الطبيعة ومستفيدًا منها فيما يصب لمصلحته ويتماشى مع متطلبات الحياة المعاصرة. فالثابت الوحيد في هذه الحياة هو التحول والتجدد. المأخذ الذي يؤخذ فهو علينا نحن لا على القصيدة فقط، المهرجانات والأماسي حتى الآن منحازة إلى شكل واحد من أشكال الشعر، فنحن لا زلنا مسكونين بجرْس القافية ورنتها، مسكونين بالقصيدة العمودية وغير متقبلين للأشكال الأخرى، وهذا ما يجعل الشاعر يعيش هذه الحيرة، حيرة رغبته في تمثيل تجربته كما يريد لها من انفتاح وتجديد، ورغبته في عدم انقطاع الحبل الممتد بينه وبين جمهوره وهذه إشكالية كبيرة! نعم ندعو للأصالة وتشرب التراث ولكن النهر يجري ولا يتوقف. كما يقول هيراقليطس: "لا يمكنك أبدا أن تستحم بماء النهر نفسه مرتين" الانفتاح على الأشكال الشعرية الأخرى انفتاح يضيف الكثير للقصيدة العربية. فاللغة تترهلُ وتشيخُ عندما تكون روتينيةً وآليةً وجافة، عندما تشيخ روحُ الكلمات، فلابد أن تشيخ اللغة تباعًا، والفنان هو من يشكِّل طينَ الكلمةِ بإحساسِه ويعيد نفخ روحه فيها اللغةُ لابد أن تكون حيةً، متجددةً، طريةً، مراوغةً، غير متوقعة ، تنسف ذاكرةَ القارئ وتعيدُ بلورتها أن لا تخاطب ذاكرةَ القارئ كما يقول الشاعرُ حميد سعيد بل تخاطب مخيلتَه ووعيَه، يقول أدونيس في كتابه "زمن الشعر" : "الإبداع لا يشيخ، وليس له نظرية لأنه حر وغير مقيد". • المتابع لتجربة الشعرية يلاحظ قوة في المعنى والمبنى اشتغال على اللغة، ما الذي تعنيه لك القصيدة؟ القصيدة هي طفلي الذي ما إن يتشكل داخلي حتى أدلله كثيرًا، أهندمه، أناغيه، وأحرسه حتى وهو وادع في سريره، أعتني به ليلًا ونهارًا حتى يتخلق ويشب ونفترق وأنا أحرسه بعيني ولا أعتقه بسرعة. وهنا أستذكر قصيدةً لي تصف هذا الشعور: "أنثى/بآلافِ القصائدِ حبلى/تَعِبَ المخاضُ/وليس تنجبُ طفلا/ما ضمَّت الأرحامُ/نطفةَ فكرةٍ/إلا وخلَّقت القصائدَ ثكلى/حين انتبذتُ إلى المجازِ/أهزُّهُ/ثغرُ الرجاءِ/على يديَّ تدلى/قلقي/نزفتُ من السؤالِ سكونَه/فرأيتُ أجوبتي الوليدةَ قتلى/أمشي وتثقلني دماءُ قصائدي/فأصيح : يا روحَ الكتابةِ/مهلا !/النصُ طفلي/طفلُ أحلامي/ فإنْ أرضعتُهُ الآهات أصبحَ أحلى/ما شبَّ/إلا منْ دماءِ أمومتي/ما شِبْتُ/إلا حينَ أصبحَ كهلا/هو مثقلٌ بالوعي يومَ لفظتُهُ/وعقدتُ سُّرةَ غيبِه/وتخلى/ثم افترقنا لم تعانقْنا الدروبُ/السُّمْرُ/لا لغةٌ تلمُّ الشملا". • شاركت في العديد من الملتقيات والمهرجانات الشعرية عربيا، برأيك أضافت هذه المشاركات لك على صعيد القصيدة وتغيير المكان؟ يقول ابن العربي : الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمد الانكشاف على روح المكان، انفتاح على عوالم الشعر وما يراد له ولطالما كان الشاعر رهين لحظته، ربيب بيئته التعالق الروحي بين الشعر وبين المكان تعالق متجذر في روحه، السفر يمنحنا متعة الوصول إلى الآخر ولطالما كان الشعر حبلا ممتدا من ذواتنا إلى الآخر، الآخر الذي لا نعرفه، الآخر الذي هو أنت! الملتقيات والمهرجات تمنحنا هذا المعنى الذي نضيفه على تجاربنا، تجاربنا التي تنضج من الداخل والخارج. مؤخرًا دعيت إلى مهرجان شعري في جزيرة فرسان وهي الجزيرة التي تتوسط البحر الأحمر الجزيرة كأنها تنزلت من عالم فاتنازي، سمرة أهلها، نوارسها التي تحرس البحر، غابات المانجروف والتي تشكل متاهة خضراء وسط البحر، اللؤلؤ الذي يكمن في الأصداف الملونة الملقاة على الشاطئ كل هذا يجعل الشعر أكثر تعالقا مع الطبيعة بكل عناصرها. • الجوائز الأدبية وأنت الحائزة على مجموعة من الجوائز، هل الجوائز تعد حافزا للإبداع؟ الجائزة تمنح المبدع نوعًا من الاستحقاق، نعم تخلق حافزًا مهما في تجربة أي مبدع، لكن يجب التعامل معها بحذر، الخطر يكمن في ربط القيمة بالجائزة؛ لأن القيمة لابد أن تكون من الداخل إلى الخارج وليس العكس، بالنسبة لي الجائزة تخلق لي حافزًا مهمًا للكتابة، إن لم يفز نصي، فأنا فزت بنص جديد أستطيع أن أضمه لأي مجموعة شعرية قادمة. • يقال بأن النقد لم يلحق بالعملية الإبداعية ما مدى صحة هذا الطرح، وهل أنصفك النقد؟ - يقول أدونيس: "الإبداع الشعري هو في عمقه إبداع نقدي" كل من يكتب الشعر فهو ناقد في عين نفسه، عين قصيدته. فالشاعر عندما ينصت لصوته الشعري الخاص لحدسه وشعوره، فهو يُعمِل صوت الناقد الداخلي الذي يسكنه. أما عن الحركة النقدية العربية فهي حركة لا زالت تسعى لردم الهوة بين الأدب والنقد، حيث لا شيء يمس العمل الفني بقدر كلمات النقد. فهي دائمًا ما تسبب حظًّا قل أو كثر من سوء الفهم.
مشاركة :