كان أحمد داوود أوغلو، رئيس الحكومة التركية السابق، هو الذي تحدث منذ وقت مبكر عما سماه «تصفير المشاكل» بين بلاده ودول الجوار في الإقليم. حدث هذا في وقت كان الرجل خلاله قريباً من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولكن السياسة فرقت بينهما، فذهب كل واحد منهما في طريق. لقد ابتعد أوغلو بعد أن كان العقل المفكر في حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبعد أن انتقل في مرحلة تالية من عالم التنظير إلى دنيا الواقع، فتولى وزارة الخارجية لفترة، ومن بعدها تولى رئاسة الحكومة، ثم كان الفراق السياسي النهائي الذي باعد بين الرجلين بلا عودة. ولكن نظرية تصفير المشاكل، بقيت من بعد صاحبها، وعاش أردوغان إلى اليوم يؤمن بها، ويعتمدها في إنعاش علاقات بلاده مع دول المنطقة. وعندما بادر وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو لزيارة القاهرة في 18 مارس الماضي، كانت زيارته عملاً بالنظرية الباقية، وكان أردوغان جربها من قبل مع أكثر من طرف، وهي النظرية التي أثبتت فاعليتها، ووجدت تركيا فيها ما يسعفها سياسياً على الدوام. وليس سراً أن العلاقات بين أنقرة والقاهرة انقطعت فجأة في 2013، وكان سقوط حكم جماعة الإخوان في مصر في ذلك العام، هو السبب المباشر، ومن هناك قبل عقد كامل من الزمان إلى اليوم، مرت العلاقات بمرحلة من التوتر الشديد، الذي كان معلناً في كل الأوقات. كان التصعيد يأتي من الجانب التركي في كل مرة، فيما كان الجانب المصري في المقابل يلتزم الهدوء، وكان يعتمد سياسة النَفَس الطويل في التعامل مع الموضوع، وكان الصبر هو أداته في مواجهة أي تصعيد، وكان يفعل ذلك عن يقين بمبدأ أنه لا يصح في النهاية إلا الصحيح، وأن الطرف الآخر سرعان ما سوف يكتشف أن رهانه على تيار سياسي بعينه في القاهرة، ليس هو الرهان الصحيح، ولا هو الرهان الذي يقوم على أساس مستقر. وهذا بالضبط ما تبين لصانع السياسة التركية، وقد كانت المشكلة أن ذلك قد استغرق وقتاً، ولكن الأهم أن أنقرة أدركت في النهاية ما كان عليها أن تدركه في علاقتها مع قاهرة المعز. وفي طريق العودة، لم تكن مصر متعجلة من أمرها، وكان تقديرها أن العلاقات العائدة لا بد من التأسيس لها بشكل جيد، ولا بد من أن تستغرق وقتها الطبيعي في طريق العودة، لتتكئ حين تعود على أرضية تؤهلها للصمود في مواجهة ما سوف يكون عليها أن تصمد أمامه. وهذا ما جعل العودة متدرجة، تمضي من مرحلة تؤدي إلى ما بعدها، ويبني فيها اللاحق على السابق، وتقود المقدمات خلالها إلى نتائجها، ولا تتعسف مقدمتها في إفراز نتيجتها، ولا تتقدم نتيجتها على مقدمتها.. وحين هبطت طائرة وزير الخارجية في مطار القاهرة، كان نائب الوزير قد سبقه قبلها بما يزيد على العام، وكان نائب وزير الخارجية المصري قد رد زيارة نظيره التركي، فزار العاصمة التركية، وقبل هذا كله، كانت اتصالات غير معلنة قد جرت بين الجانبين، لتكون الأرض مهيأة لما سوف يجيء. وفي أثناء زيارته، تكلم وزير الخارجية عن لقاء قمة مرتقب بين رئيسي البلدين، ولكنه لم يشأ أن يحدد موعده على وجه الدقة، وإنْ كان قد قال: إن الموعد يمكن أن يكون قبل انتخابات البرلمان والرئاسة، التي ستجري في تركيا مايو المقبل، أو بعدها مباشرةً، في أقصى تقدير.. ولم تكن زيارة مولود أوغلو رداً على الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى أنقرة، في أعقاب زلزال 6 فبراير، الذي ضرب تركيا وسوريا، لأن زيارة شكري كانت ذات طابع إنساني واضح، أما زيارة مولود أوغلو، فطبيعتها سياسية خالصة، وهي كما نفهم من السياق السابق، حلقة ضمن حلقات مؤدية إلى بعضها البعض. العلاقات العائدة بين البلدين، نموذج لما يمكن إنضاجه بين أي بلدين على نار هادئة، وهذه طريقة مضمونة العائد في السياسة. * كاتب صحافي مصري طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :