تكشف الصور الفاتنة والمذهلة التي التقطت لجزيرة "بافِن" في القطب الشمالي كيف يمكن أن يعيش المرء ويعمل على أرضٍ ذات تضاريس جرداء متجمدة كتلك السائدة هناك، وفق "بي بي سي". تشكل جزيرة بافِن جزءا من كندا، وتجاور منطقة "غرين لاند" من جهة الغرب، وهي خامس أكبر جزيرة في العالم، وتقع بالكامل تقريبا في الدائرة القطبية الشمالية. وخلال شهور الشتاء الطويلة، تنخفض درجات الحرارة لتصل إلى 40 درجة مئوية تحت الصفر. وحتى في فصل الصيف، الذي لا يستمر سوى شهرين، نادرا ما تتجاوز درجات الحرارة درجة التجمد. يعني ذلك أنه ليس أمام الباحثين - الذين يجرون دراسات ميدانية – سوى بضعة أسابيع لإنجاز أعمالهم، وذلك في الفترة ما بين أواخر يوليو/ تموز وأوائل أغسطس/ آب من كل عام. فإذا ما قدمت مبكرا عن ذلك، سيلتهمك البعوض، أما إذا تأخرت فستغمرك الثلوج الأولى لـ"الشتاء". وهكذا وصلت إلى بافِن أواخر يوليو/ تموز 2014، على متن مروحية أقلتني إلى حيث معسكرنا الميداني الواقع على قمة جرف صخري يبلغ ارتفاعه نحو 400 متر، ثم تلاشت في السماء الواسعة. وقفت هناك مفتونا بالمضايق المائية ذات اللون الأزرق الزمردي التي تبدو من تحتي، تتخللها صفائح متألقة ولامعة مما يُعرف بـ"الجليد البحري"؛ وهو عبارة عن مياه البحر التي جمدتها برودة الطقس. وأثناء انتظاري لقدوم زملائي لاصطحابي إلى داخل المعسكر؛ استغرقت في التفكير فيما يمكن لي فعله إذا ما رأيت دبا قطبيا يجول أمامي في الأفق. خلال الأسابيع القليلة التالية، واتتنا جميعا الفكرة نفسها في كثير من الأحيان، فقد كنا على بعد مئات الأميال من العمران والحضارة، لا نهتدي سوى بأقدامنا، ونشعر بأننا تحت رحمة الطبيعة بكل معنى الكلمة. وإلى الساحل الشمالي من جزيرة بافِن؛ تقع شبه جزيرة بوردِن التي تحتوي على صخور رسوبية تعود إلى نحو مليار عام، وتتألف من شعاب مرجانية تكونت في قديم الأزل في المياه الضحلة، ورواسب صخور طينية من تلك الموجودة في أعماق المحيط. وتحتوي هذه الصخور على حفرياتٍ لبعض أقدم أشكال الحياة على وجه كوكب الأرض. وقد توجهنا لهذه المنطقة لدراسة تلك الحفريات كي يتسنى لنا التعرف على تفاصيل ما حدث في المراحل الأولى من عمر الأرض. وقد أمضينا أيامنا هناك نطوف السهول الجرداء، باحثين عن الأودية والجروف الصخرية شديدة الانحدار، التي يمكن أن نجد فيها صخورا قد يفضي فحصها ودراستها إلى العثور على أدلة تبين وجود محيطات، أو شعاب مرجانية، أو شواطئ في هذه المنطقة في السابق. أدينا مهمتنا خلال ما يُعرف بـ"صيف القطب الشمالي" الذي يتسم بطول ساعات النهار فيه، ولذا كنا نستكشف في أنحاء البرية لأكثر من 12 ساعة يوميا، ثم نعود لمعسكرنا لنتناول وجبات مُجففة مماثلة لتلك التي يتناولها رواد الفضاء. ولا أوصي على أي حال بتناول مثل هذه الوجبات، ولكن بعد يوم طويل من السير والتجوال وصعود المرتفعات، يبدو أي شيء يأكله المرء شهي المذاق. على أي حال، سار كل شيء كما كان مخططا، حتى منتصف أغسطس/آب، حين بدأت أولى ثلوج "الشتاء" في الانهمار. وهكذا باتت المروحية الخاصة بنا عاجزة عن الوصول إلينا، كما أدت الظروف الجوية إلى تعذر خروجنا للعمل تماما، لنمكث خمسة أيام كاملة بداخل المعسكر عاكفين على لعب الورق. وفي كل يوم من تلك الأيام، كان الأمل يراودنا في أن تنفرج الغيوم التي تلبد السماء ولو قليلا، حتى نتمكن من تشغيل هاتفنا المتصل بالأقمار الصناعية للحصول على توقعات الأرصاد الجوية من طيار المروحية. لكن خمسة أيام مضت دون أي تغيير في الأحوال الجوية. وطيلة ساعات الليل، كنا نتبادل مراقبة المنطقة المحيطة بالمعسكر لرصد أي دب قطبي يمكن ان يقترب منّا، ففي فترة الصيف القطبي القصيرة تخرج تلك الدببة من بياتها الشتوي لتجول على البر من أجل الصيد والقنص. ونظرا لانكماش رقعة الجليد البحري الموجود في القطب الشمالي بفعل التغير المناخي، فقد بات بوسع الدببة المجازفة بالوصول إلى مناطق أبعد على البر على نحو غير مسبوق. ورغم أننا رأينا عددا كبيرا من هذه الحيوانات وهي تجوب أنحاء جزيرة بافِن ولكن – لحسن الحظ – لم نحظ قط بزيارة أي منها. وعندما صفت الأجواء أخيرا، أعادتنا المروحية إلى بلدة "بوند إنليت"؛ وهي أقرب بلدة يقطنها الأسكيمو في المنطقة المجاورة للمعسكر. وقد كان ذلك تخفيفا مُرحباً به للظروف العسيرة التي نمر بها، إذ كنا نحن الستة مكدسين جميعا طيلة تلك الأيام الخمسة التي قضيناها محاصرين في المعسكر، بداخل خيمة واحدة صغيرة. وبينما كنا نجلس على قمة جرف صخري بانتظار المروحية، لاحظنا وجود معسكر صيد صغير لأبناء الأسكيمو على شواطئ خليج ميلن الواقع تحتنا. شاهدنا أفراد المعسكر يطاردون حيوانات "كركدن البحر"، وهي النظير البحري لحيوانات وحيد القرن، وذلك عند خروجها من الماء لاستنشاق الهواء. كان ذلك بالنسبة لنا مشهدا حزينا، ولكنه كان أيضا نمط حياة هؤلاء الأشخاص، ولم نكن في وضع يسمح لنا بأن نحكم على ممارسات الصيد الخاصة بهم. قضينا الوقت في بلدة "بوند إنليت" نلهو مع أطفال الأسكيمو، ونستمع إلى حكايات يرويها لنا شيوخ البلدة عن الدببة القطبية والعواصف الشتوية. ونتيجة لسوء الأحوال الجوية، لم نُنجز الكثير من العمل، واضطررنا لانتظار أي تحسن - ولو مؤقت - في الطقس، لنتمكن من التوجه إلى معسكرنا الميداني التالي. وبدت كل الحكايات التي استمعنا لها خلال وجودنا في البلدة ذات وقع واحد تقريبا. فالبحارة والمخرجون السينمائيون والموظفون الحكوميون وكذلك السكان من الأسكيمو أنفسهم، تحدثوا جميعا عن الأنماط غير المعتادة للطقس في الوقت الراهن وعن جبال الجليد المملوءة حاليا بمياه ذائبة بشكل ينطوي على خطورة. وتمثل كل هذه الحكايات مؤشرات على المناخ المتبدل غير المستقر الذي يسود الأرض حاليا. على أي حال، مكثنا ستة أيام في "بوند إنليت" بانتظار المروحية التي ستقلنا إلى معسكرنا التالي. وخلال تلك الرحلة الجوية، تعطلنا قليلا للبحث عن قارب مفقود عثرنا عليه لحسن الحظ سالما وفي حالة جيدة. ولكن حتى حينما وصلنا للمعسكر، لم تُمكِننا أحوال الطقس سوى من العمل ليوم واحد فقط، إذ ساءت بعد ذلك من جديد وأجبرتنا على العودة جوا إلى الديار. بطبيعة الحال كان ذلك مخيبا للآمال. لكن العمل في مناطق مثل هذه لا يزال له سحره وفتنته. فهناك، يصبح المرء مدمنا لشعور أنه يعمل وحيدا في البرية، ساعيا لفك الألغاز والطلاسم التي تكتنف الشاكلة التي تكوّن بها كوكب الأرض قديما.
مشاركة :