عبِّر الكاتب وأستاذ الفلسفة د.محمد الفاهم في كتابه "مثل ذئب يعوي تحت القمر: نصوص شعرية فلسفية"عن نفسه، وأسرارها، وأحلامها، عَبْر نصوص سمَّاها شعرية فلسفية، ربما تَحمل من الشعر القدرةَ على التعبير، والمعنى الدفين وراء كل لفظة، واستفزازًا نحو الغوص في احتمالاتٍ دلالية لكل كلمة، ومن الفلسفة تَحمل فكرًا، وفكرةً تسير كنَهر، يَشق كل نصٍّ ليَصِله بالتالي، ليمر بعقلنا ووجداننا معًا. إذَن هي بعض أفكارٍ أراد الكاتب أن يطرحها أمام قارئٍ ناقد، لا يُعمِل فيها سياق النقد التقليدي، بل يتأنَّى وينظر ما هي فاعلة فيه أولًا، وهو نوع من الكتابة أشار إليه المؤلف في مقدمته، وهو "الكتابة المركبة"، التي تتعمَّد تحطيم الحدود بين الأدب والفن والفلسفة والشعر والأسطورة والدين؛ فهي تعكس التعقيد بين هذا الصنف وذاك. يقول الفاهم في مدخل كتابه الصادر أخيرا عن مؤسسة هنداوي "تأتي هذه النصوص باعتبارها ممارسة كتابية تجريبية، تطمح إلى الوقوف على الحدود بين الفلسفة والأدب، كأجناس عُرف عنها أنها مستقلة عن بعضها البعض، على الأقل ضمن النظرية النقدية الكلاسيكية. إنها كتابة تهدف إلى عبور الحدود التي أقامتها هذه النظرية بين المفهوم والاستعارة، الحقيقة والجمال، الوضوح والغموض، الدلالة الحاضرة والدلالة المؤجلة؛ لذلك فهي تحاول الاشتغال بشكل تركيبي. إنها أدب مكتوب بطريقة فلسفية، وفلسفة مكتوبة بطريقة أدبية، أو بطريقة أخرى تقدم نفسها هذه النصوص كممارسة جديدة للفلسفة، وكإبداع جديد للممارسة الكتابية. لقد حاولت أن أعبر جماليًّا عن المفهوم، وأن أرفع الجمال إلى درجة الفكرة". ويضيف "من الناحية النظرية يمكن أن نقول بأن مفهوم الكتابة المركبة، يمتح من المفهوم الذي بلوره إدغار موران في مجال الدراسات الفلسفية، حوْل ما يُعرف بالفكر المركب La penséescomplexe. وهو الفكر الذي أراد له صاحبُه ـ كما هو معروف ـ أن يتجاوز الفكر التبسيطي الذي يضع حدودًا، وجدرانًا فاصلة بين المعارف، مدعيًا أن كل معرفة تتميز بهُويتها الخاصة وبمقولاتها الثابتة. من هنا الإعلاء من قيمة الوضوح والنظام والأصل، بينما الفكر المركَّب على العكس من ذلك، يؤكد على الدور الكبير الذي تلعبه الصُّدفة والتحول واللااستقرار في تشكيل طبيعة المعرفة. فالفكر المركب ما هو إلا هذا الحوار الدائم والتفاعل المستمر واللانهائي للمعارف البشرية..إذا كان هذا الأمر يحدث في الفلسفة، فلماذا لا نتحدث أيضًا عن الكتابة المركبةL’écriturecomplexeفي مجال الإبداع. إن المفاهيم ترحَلُ من خطابٍ إلى آخر، وهذا هو ما يضمن انفتاح المعرفة وتطورها، وكما قال إدغار موران "إن المفاهيم تسافر، ومن الأفضل لها أن تسافر مع علمها أنها تسافر. من الأفضل لها ألا تسافر بشكل سري". لماذا إذن يظلُّ الأدب بعيدًا عن هذا الأمر، وهو الذي كان سباقًا لتناول هذه الظاهرة من خلال مفاهيم أصبحت الآن شهيرة، كالتناص وتكسير البنية، وما وراء النص، وغيرها من المفاهيم التي تهدف إلى فتحِ النص، والدفع به نحو ضفاف كانت مستبعدة منه في الماضي. ويرى الفاهم أن الكتابة المركبة، أو ما يُمكن أن نسميه أيضًا بالسَّرد التعددي المفتوح على التنوع والتعدد، نوع من الكتابة التي تحاول تجاوز التصنيف الكلاسيكي للأجناس الأدبية؛ إذ ليس ثمة حدود بين الأدب والفن والفلسفة والشعر والأسطورة والدين، بل وحتى العلم والإبيستمولوجيا، فالكتابة المركبة تعكس التعقيد La complexitéوالتداخل والتبادل الموجود بين هذه الأجناس.مع ذلك علينا ألا نخلط بين السرد الكبير، والسرديات الكبرىLes Meta récits، فهذه الأخيرة كما هو معروف انصبَّ عليها نقد جان فرونسوا ليوطار. إنها مجموع الخطابات المغلقة التي تدعي امتلاكها للمعنى والحقيقة مثل الميتافيزيقا والحداثة. أما السرد الكبير فهو نوع من الكتابة المفتوحة، المعانقة لتعدد الحياة، إذ إن الحياة نفسها ما هي إلا سرد كبير، بدأ منذ فجر التاريخ، وما زال مستمرًّا إلى يومِنا هذا، ونحن نعيشه على شكل مرويات صغرى تبدأ بميلادنا وتنتهي بموتنا.
مشاركة :