تكشف الحوارات مع الكتاب عن جوانب هامة للغاية من صنعة الكتابة، تلك التي تظل سرا يجري خلفه القراء والمولعون بالكتابة. وهذا لا تجيب عنه الأعمال الأدبية بشكل واف ولذا تكون الحوارات بأسئلتها المستفزة والعميقة وسيلة هامة لفهم الكتابة والكاتب على حد سواء، وهو ما سعى إليه كتاب “مأدبة السرد”. جمع الكاتب العراقي كه يلان محمد حواراته مع مجموعة من الكتّاب العرب والتي كان قد أجراها مزودا بالحس الصحافي ونشرت المواد الحوارية في صحف مختلفة، ليختتم الكتاب بحلقة نقاشية عن “واقع النقد ورهانات الرواية العربية” بمشاركة الأكاديميين حسن سرحان من العراق ولونيس بن علي من الجزائر، إذ يطرح الكاتب في كل مرة سؤالا يجيب عنه الناقدان، وهكذا تم التأسيس في هذا الكتاب لمساحتين واحدة للروائيين وأخرى للنُقاد ليتحدثوا مباشرة عن مواقفهم من مسائل أدبية مختلفة ويكشفون عن آرائهم التي بقدر ما تباينت تعكس أهمية الأسئلة وقيمة الأجوبة. نلاحظ تنوعا في الكتّاب الذين اختار محمد أن يحاورهم، فمنهم كتاب يقيمون في أوطانهم وآخرون اختاروا المهجر أو اضطروا إلى المنافي، كما أنهم ينتمون إلى مدارس سردية مختلفة منهم من يكتب بطريقة تقليدية ومنهم من يحاول أن يجرب بأشكال مختلفة وأغلبهم ممن كان لهم حضور مؤثر في الواقع الثقافي العربي. تسليط الضوء ي يستنطق كه يلان محمد الكتّاب الذين حاورهم على طريقته، ففي مفتتح الحوار أحيانا يقدم للروائيين الذين يحاورهم مثلما فعل مع أغلبهم وأحيانا يدخل مباشرة في الأسئلة، وكأنه يفترض مسبقا أن شهرة الكاتب تعفيه من التقديم مثلما حدث في محاورته للروائية السورية لينا هويان الحسن، أو في محاورة الروائية السورية نغم حيدر أو الروائية المصرية رشا عدلي. لفت انتباهي أن الأسئلة الموجهة للكُتاب في أغلبها أسئلة من الداخل وهو ما كان يدفعني أكثر من مرة للعودة إلى محرك البحث غوغل للاطلاع بشكل أقرب على عمل الروائي. أيضا قرب محمد في مؤلفه بعض الكُتاب من القراء، فإن كان بعضهم يتصدر المشهد السردي لسبب أو لآخر، فإن البعض الآخر اختار نوعا من العزلة والابتعاد عن الصخب، وهو ما جعلهم بعيدين عن الأضواء، لذلك هذا الكتاب يسلّط عليهم الضوء ويلفت الانتباه إلى مسيراتهم الإبداعية. تأتي أهمية الحوار مع أي كاتب بالنسبة إليّ من كونه يجعل الكاتب نفسه يتحدث مباشرة عن كتبه وعوالمها ويفسر أهم ما ورد فيها من تقنيات وتفاصيل تهم عملية الكتابة من جهة، وتهم طريقة تناوله لبعض الشخصيات أو الأحداث من جهة أخرى، وهذا ملمح مهم من منطلق أن داخل الحوار يُستنطق الكاتب حول العملية الإبداعية بما هي ممارسة رؤية في الوقت نفسه. وهذا ما تراه في محاورة سعد محمد رحيم وهو يتحدث عن النهاية الغامضة لرواية “مقتل بائع الكتب” فيقول إن بطله محمود المرزوق “لم يقتله شخص محدد وإنما ضحية تاريخ إشكالي ساهم هو نفسه في صنعه وإن لم يقصد ذلك”، ثم يتدارك الروائي رحيم فيقول “من حق القارئ أن يؤوّل بطريقة أخرى”. أيضا يقول أزهر جرجيس متحدثا عن “سعيد” بطل روايته “النوم في حقل الكرز”: “لم يشفع لسعيد ها هنا اسمه ولا انتماؤه ولا عمقه الحضاري في جعله شخصا سعيدا، فالسعادة مفهوم مشكك لا علاقة له بالهوية والانتماء والعمق الحضاري وكم من شعب لا يدين للحضارة بشيء يعيش السعادة في أقصى حدودها، هذا ما أردت قوله باختصار”. في هذا الكتاب تم تقديم بعض المواقف التي تمثل أسئلة محرجة وربما قضايا أدبية يستحق أن ننظر فيها مثل قول نزار عبدالستار “نعاني من أميّة في فن الرواية” فهل يعني هذا أن الروائيين يكتبون وهم يجهلون تماما ماذا يفعلون؟ أليس في ذلك إدانة لمسار سردي يبدو هو النمط الأدبي المهيمن الآن؟ ألا يعني ذلك اتهام أغلب الروائيين بأنهم مجرد حكائين سطحيين؟ هل يعني ذلك أن الرواية فن وعلم يدرس وقواعد تطبق؟ الكتاب ينتصر لأهمية محاورة الأدباء وجعلهم يتحدثون عن رواياتهم وعوالمهم مسجلا مواقفهم من قضايا أدبية تكشف صنعتهم في هذه الحوارات لاحظت أن صاحب كتاب “كهف القارئ” ينتصر أحيانا إلى الروائيين العرب عندما يحيلهم مباشرة على نظرائهم من الأدباء العالميين فهو مثلا يربط بين إنعام كجه جي وبين ماركيز فيقول ص 25 “إن مقاربتك لثيمة الحب في عملك الجديد يجعلك قريبة مما تبناه ماركيز في رواية ‘مائة عام من العزلة"” أو الربط بين الروائية الجزائرية فضيلة الفاروق التي يعتبرها “تستوحي أسئلتها من آراء الروائية الفرنسية مارغريت دوراس” (ص 114). في كتاب “مأدبة السرد” لاحظت أن أسئلة المحاور غالبا ما توجه إلى عمل روائي بعينه يتحدث فيه مع الكاتب وقد حدث هذا بطريقة مشوقة جعلتني أكثر من مرة أبحث عن الرواية وأبحث عنها لبرمجة قراءتها وهو ما حدث لي مع رواية “وحدها شجرة الرمان” لسنان أنطون وربما لأنني قرأت له رواية “يا مريم” وأعجبتني، كما يهمني الحصولُ على الكتاب النقدي “كيف نقرأ ولماذا؟” لصاحبه هارولد بلوم الذي أشار إليه الدكتور لونيس بن علي (ص 144). بهذه الحوارات يمكن أن نتبين بشكل عام خصائص الرواية مثل تعريفها من خلال علاقتها بالواقع، من ذلك تعريف للرواية في قول كاتيا الطويل “الرواية هي هذا السحر، الجناحان اللذان أهرب بهما من الواقع ومشاكله”، والذي يعني أن الرواية هي بديل عن الواقع. أيضا أشارت أم الزين بن الشيخة إلى أن “الرواية هي إحدى حدائق الفلسفة، بل هي فعل فلسفي بامتياز وربما هي الفعل الكلامي الإنجازي الوحيد للفلسفة نفسها بوصفها تنتمي إلى مجال الوعد بالسعادة”، وهو ما يجعل من الرواية موقفا من الحياة وينزّلها في خانة “الرواية الذهنية” في حين أن الناقد الجزائري لونيس بن علي يذهب إلى أن الرواية هي “مغامرة تجريبية تؤسس وجودها الفني والجمالي على بحث مستمر عن الشكل الفني”. اختلاف الرؤى من خلال محاورة الكُتاب في "مأدبة السرد" يمكن أن نعثر على مقولات لافتة تتحول بدورها إلى أقوال سردية مأثورة يمكن أن نتبين مواضيع الرواية التي يحددها الروائي المصري إيمان يحيى فيقول “الواقع والخبرات العريضة هي القماش الذي يصنع منه الروائي كتابته”. وفي مفهوم الروائي نفسه تقول أم الزين بن الشيخة مثلا “من يكتب وليس في نفسه شيء من الثورة على ما هو سائد في مجال الكتابة نفسها لن يكون سوى متملق كبير”. وعن خصوصية الرواية يقول الدكتور حسن سرحان “تطور الرواية يكمن في النوع لا في الكم”، في حين أن لونيس بن علي يقول “في الرواية الموضوعات تتكرر إما محاكاة أو صدفة لكن ما لا يتكرر هو الأساليب”. تبدو وجهة نظر الكتاب مختلفة بل متناقضة في بعض المسائل المهمة مثل الهوية فنجد الكاتب العراقي محمد حياوي يقول “لست معنيا بالهوية في الحقيقة والشخصيات عندي تكتسب هويتها من موقعها الذي أضعها فيه”، في حين تقول الكاتبة المغربية فاتحة مرشيد “أعتقد أن فعل الكتابة هو في حد ذاته بحث عن هوية، هوية الكاتب أساسا من خلال شخصيات يبتكرها”، وهو ما يبرز اختلاف وجهات النظر ويعبّر عن الثراء المعرفي الذي توفره هذه المحاورات. من خلال محاورة الكُتاب في “مأدبة السرد” يمكن أن نعثر على مقولات لافتة تتحول بدورها إلى أقوال سردية مأثورة لها حسب رأيي قيمتها الأدبية مثل قول أزهر جرجيس “الكتابة السردية فعل جمالي مهمته طرح الأسئلة”، أو قول لينا هويان الحسن “الكاتب هو أسلوب قبل كل شيء، أسلوبك الذي يدل على تقاطيع ذهنك وملامح تفكيرك وهندامك وحضورك كلها أمور تشي بمضمونك (..) نحن نشبه ما نكتب”. أعتقد أن قيمة هذا الكتاب الحواري أنه ينتصر من جهة لأهمية محاورة الكُتاب وجعلهم يتحدثون عن رواياتهم وعوالمهم مباشرة كما أنه يسجل مواقفهم من قضايا أدبية ويكشفون عن صنعتهم داخل النص الروائي نفسه. يذكر أن كتاب “مأدبة السرد حوارات في صنعة الرواية” صدر سنة 2022 عن دار قناديل العراقية.
مشاركة :