يُواجه الإسلامُ اليومَ – والمسلمون من وراء ذلك – أعظمَ الأزمات التي مرّت به/بهم على امتداد تاريخه الطويل. كل الأزمات التي مرّت بالإسلام، بداية من الانقسام والتشظي، ونشوء الفِرَق، والصراع السياسي المحتدم الذي تغذّى على هذه الفِرَق وعمّق فرقتها في آن، لم تكن بحجم التحدي الذي يواجهه اليوم؛ بعد أن أخذ فريق من المنتسبين إليه يمارسون أفظع ما في تراثه توحشا وهمجية، سواء في علاقاتهم البَيْنِيّة داخل الإطار الإسلامي، أو في علاقاتهم مع الآخرين. إذا استوعبنا حقيقة هذا الواقع المؤلم الذي يكاد بسببه أن يرفض بعضُ أبناء الإسلام دينهم، استطعنا أن نفهم عمق الأزمة التي يمر بها الإسلام/ المسلمون في هذا العصر الذي تأنسن وتعولم ويزيد موقفنا سوءاً أننا في زمن تعولمت فيه القيم الإنسانية، فأصبحت مبادئ حقوق الإنسان الأولية تُشكّل ضميرا عالميا شديد الحساسية تجاه أي انتهاك يمس إنسانية الإنسان، إضافة إلى كوننا نعيش زمنا إعلاميا/ تواصليا يرصد أصغر الانتهاكات بحرفية بالغة، ويضع عليها كثيرا من الأضواء كجزء من متطلبات الإثارة الإعلامية. وهنا، تصبح أبسط الانتهاكات جريمة معلنة تُرَاكَم في رصيد سمعتنا عالميا، فكيف بتلك الانتهاكات المتوحشة التي يُعلن عنها أصحابها بتصويرها وتعميمها على وسائل الإعلام. في الأزمنة القديمة، كانت تقع كثير من الانتهاكات والفظائع التي تتجاوز ما يحدث الآن، ولكنها كانت لا تعرف إلا في دوائر ضيقة، وإذا عرفت لا تعمّ العالم إلا فيما ندر، وما ينتشر خبره منها ينتشر ببطء، وبالتباس يُضعف اليقين فيها (التصوير الآن ينقل الجريمة من كونها خبرا إلى أن تصبح واقعا مشاهدا)، ما يؤدي إلى التخفيف من حدة حرارتها. إضافة إلى ذلك، فإن تلقيها آنذاك لم يكن بمثل هذه الحساسية الإنسانية التي تسود العالم اليوم، بل إن بعضهم كان يراها من مظاهر القوة والعنفوان واستحقاقات السلطان، بدليل أن الصورة النموذجية للإنسان الكامل شجاعة وبأسا، كانت صورة (الأسد) المفترس المتوحش الذي لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلا!. إذا استوعبنا حقيقة هذا الواقع المؤلم الذي يكاد بسببه أن يرفض بعضُ أبناء الإسلام دينهم، استطعنا أن نفهم عمق الأزمة التي يمر بها الإسلام/ المسلمون في هذا العصر الذي تأنسن وتعولم؛ فأصبحت الانتهاكات (لا تَخفى) و(لا تُقبل). لا بد أن نواجه حقيقة أن الإسلام والمسلمين محل توجس وريبة، بل وكراهية معلنة في كثير من بلدان العالم؛ لأن الانتهاكات/ الأفعال الوحشية التي يقوم بها منتسبون إلى الإسلام، لا يقومون بها مجردة من أي بعد هُويّاتي، بل ولا يقومون بها كمسلمين فقط، وإنما يقومون بها، مُعلنين عنها، مُواجهين بها العالم أجمع، وبتبجح، بوصفها – كما يزعمون - أوامر شرعية يأمر بها الإسلام صراحة، ولا بد للمسلم الحق من تنفيذها؛ وإلا أصبح خائنا لتعاليم الإسلام. لهذا، كان من الضروري أن تكون ثمة مبادرات للفصل الشرعي بين ما يفعله الإرهابيون المسلمون، والإسلام. طبيعي أن مثل هذا الفصل لا يتحقق بتصريح واحد أو اثنين من العلماء أو مؤسسة من المؤسسات الدينية المعتبرة في العالم الإسلامي، بل لا بد أن يحدث هذا في مؤتمر تأخذ قراراته/ بياناته صفة الإجماع النسبي الذي يعبر عن إرادة الأغلبية من قادة الوعي في العالم الإسلامي. جاءت المبادرة الأهم من المغرب، حيث انعقد في الفترة بين 25 – 27 يناير 2016م مؤتمر ضمّ حوالي 300 من علماء ومفكرين مسلمين، وسياسيين وزعماء طوائف وأقليات، من 120 بلدا، وانتهى بإعلان مراكش الذي أكّدت خطوطه العريضة على ملامح خطاب إسلامي جديد، خطاب متسامح، يقف بالتضاد مع خطاب التطرف والكراهية الذي يريد أن يختطف الحديث باسم الإسلام. لم يكن غريبا، ولا مصادفة أن تأتي المبادرة من المغرب؛ لأن مثل هذا الحراك النوعي لا يصدر من فراغ فكري أو اجتماعي. المغرب اليوم هو – بلا مبالغة -: عقل العرب المفكر، حيث يوجد أكثر المفكرين المتوفرين على إنتاج نوعي في عالم الفكر، وحيث توجد أكثر صور الحراك الفكري العقلاني جدية ومَأسَسَة، كما أن المغرب سبّاق إلى كثير من الأنظمة والقوانين التي تؤسس لحقوق الإنسان. وثمة إرادة سياسية تدعم هذا الاتجاه التنويري بقوة، وتُمكّن لكثير من التطورات في عالم الفكر؛ كي تأخذ سبيلها إلى عالم الواقع. المغرب يتطور - بخطى واثقة - على مستوى الخطاب في الأطروحات الفكرية/النظرية، وعلى مستوى الممارسة في الإجرائيات العملية. لقد حقق المغرب كثيرا مما وعد به، ولا يزال يعد بالكثير، وكل المؤشرات تؤكد أن المغرب على أعتاب نهضة شاملة. والمغاربة من طبيعتهم الإنجاز بصمت. لا شك أن المغرب بحكم قربه الجغرافي من الغرب، وبحكم كونه الأصل الوطني لجالية مغربية كبيرة تعيش في أوروبا؛ أدرك – بعمق - كارثية ما تفعله الجماعات المتطرفة المتأسلمة على واقع المسلمين جميعا، وعلى واقع المسلمين في الغرب خصوصا. فما يحدث للأقليات غير المسلمة في بلاد المسلمين، قد يُحدِث أكبرَ الضرر على الأقليات المسلمة في الغرب. ومن هنا، رأى بعضهم أن المؤتمر يُحاول تلافي التداعيات القانونية والشعبية على واقع المسلمين في الغرب؛ بعد الأعمال الإرهابية الأخيرة، وخاصة ما وقع في باريس. لكن، أيا كان الدافع المباشر/ الواعي لمثل هذا المؤتمر؛ فهو خطوة إنسانية، بقدر ما هو خطوة إسلامية، تستحق الإشادة، بقدر ما تستحق التفعيل. أيا كان الأمر، فالمهم أنه حراك كبير مدفوع بما يحدث الآن في فضاء الإسلام على يد مُختطفي الإسلام من إرهاب وعنف في القول والعمل. وفي نص الإعلان تصريح بهذا الدافع، إذ يقول: "اعتبارا للأوضاع المتردية التي تعيشها مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب اللجوء إلى العنف والسلاح لحسم الخلافات وفرض الآراء والاختيارات". لقد بدأ الإعلان بالإشارة الصريحة إلى ما تُعانيه الأقليات في سياق الإرهاب الديني من تقتيل وتهجير واستبعاد وامتهان كرامة. وهذا يعني أن العنف الذي بات سيد الموقف في كثير من البلدان الإسلامية، هو ما دفع لإصدار هذا البيان التسامحي، بعد أن تحول عُنف الخطاب الدعوي إلى عنُف ممارسة إرهابية صادمة لأبجديات حقوق الإنسان. ومع أن المسلمين هم المعنيون أصالة بهذا المؤتمر ونتائجه (حيث يتوجّه إليهم كفاعلين في فضائهم الجغرافي)، إلا أن المؤتمر ضم كثيرا من زعماء الطوائف غير الإسلامية؛ ليكونوا على مشهد من صناعة خطاب نوعي، تصوغه الأكثرية بحق الأقليات. إنه خطاب الأكثرية، ولكن كان من الضروري تأييد زعماء الأقليات على ما يرد فيه من ضمانات؛ بوصفها كافية – في مستوى مضامين الخطاب – لردع العدوان على أتباعها. إن تركيز الإعلان على حقوق الأقليات، وتصريحه بها، ليس إهمالا لحقوق الأكثرية التي أشار إليها الإعلان في سياق العموميات الحقوقية، وإنما هو تركيز مقصود يصدر عن وعي بكون حفظ حقوق الأقليات يضمن بالضرورة حفظ حقوق الأكثرية، إذ الأقليات هي الحلقة الأضعف في مثل هذا الواقع المتفجر بالصراعات الدينية والمذهبية المفتوحة على أسوأ الاحتمالات. أستطيع الجزم بأن الإعلان يخطو خطوات نوعية في سبيل تنوير إسلامي حقيقي؛ فيما لو تم تفعيله، فهو يؤكد بوضوح على الكرامة البشرية الأولى (ولقد كرمنا بني آدم..)، وأن الإنسان مُكرّم بنفخة من روح الله. ثم التأكيد على أن هذا التكريم - هذه النفخة الإلهية، هي أولية في الإنسان، بصرف النظر عن دينه ومذهبه، والتصريح بأن هذا التكريم اقتضى منحه حرية الاختيار (لا إكراه في الدين)، و(ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). أيضا، يؤكد الإعلان أن البشر أخوة في الإنسانية، بصرف النظر عن الخلافات الدينية والمذهبية. وبلا شك، هذا تجاوز تنويري إيجابي للمحددات التقليدية المرتبطة بتنظيرات الولاء والبراء التي أسس عليها المتطرفون فتاواهم المتطرفة في وجوب كراهية الآخر، حتى ولو كان مُسَالما، بل حتى ولو كان مُحسنا!. وإمعانا في تأكيد تسامح الإسلام، ينص الإعلان على أن السِّلم هو عنوان دين الإسلام، وأعلى مقصد من مقاصد الشريعة في الاجتماع البشري، وأن الإسلام يدعو للبرّ، دون تفريق بين الموافق والمخالف في المعتقد (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم..الآية). والمراد هنا: تأسيس العلاقة بين البشر على أساس إنساني محض، ولو من خلال المنطق الديني المؤسس – نظريا - لهذا الأساس. ولأن السلمية مرتبطة باحترام القوانين والمواثيق، يؤكد الإعلان على أن الشريعة حريصة على الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق التي تضمن التعايش بين البشر. وفي تقديري أن هذه إشارة إلى المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان أولا (التي وقّعت عليها الدول الإسلامية)، قبل المواثيق الثنائية بين الدول (وهي المواثيق الظرفية ذات الطابع المصلحي). وبناء على هذا، فإن الإعلان يبدو خطابا موجّها إلى الحكومات والمؤسسات الحاكمة في إلزامها ما التزمت به، كما هو موجّه إلى الأفراد في دول العالم الإسلامي من حيث كونهم فاعلين على أرض الواقع. بل ربما أن الرسالة الأهم منه موجّهة إلى العالم الغربي الذي بدأ كثير من مفكريه ونُشطائه الحقوقيين يتشكّكون في صدق التزامنا بما تعهدنا الالتزام به من المواثيق المعنية بالحريات والحقوق والعدل والمساواة. (وللحديث بقية)
مشاركة :