أبدى المفكر الأردني الدكتور فهمي جدعان تحفظه على تحميل الدعاة والوعاظ وأئمة المساجد المسلمين ورجال الدِّين المسيحي وغيرهم «الأزمات الأخلاقية»، وهجر الناس الدِّين والأخلاق التي دعت إليها ديانات التوحيد، وتمسكهم بقناعة أن الأخلاق هي على وجه التحديد القيم والأخلاق الدينية ولا شيء سواها.ويرى، أن الحقيقة هي أن الإنسان بإطلاق مفطور على ثلة من القيم التي يذهب كثير من الفلاسفة والمفكرين والعلماء إلى الاعتقاد بأنها مغروسة، أو مغروزة في الطبيعة الإنسانية وجاءت الأديان لتعززها وتضيف إليها قيماً جديدة. ولفت إلى أن التمييز بين الأسس الدينية والأسس الفلسفية، أو العقلية الطبيعية، ظل قائماً كون الناس ليسوا جميعاً مؤمنين، إلا أنه لا يعني أن غير المؤمنين بلا أخلاق، فالقيم الأخلاقية الطبيعية الفطرية حاضرة في كل مكان، جنباً إلى جنب القيم الدينية.وعدّ من مغذيات الأخلاق الطبيعية «الفطرة، العقل، الضمير، المجتمع»، بينما القيم الدينية تستند «للنص والوحي». مشيراً إلى أنه يمكن أن ننسب للأولى الفضاء الغربي، وللثانية المجتمعات العربية، إلا أنه لا يمكن مقاربة المسألة بإطلاق من أبواب الفضاءات الغربية على الرغم من التأثيرات التي تدرك أجواءنا، إلا أن للفضاء العربي أوضاعه الخاصة، وامتداده التاريخي في الحاضر يشكل حالة مختلفة، فالمعطيات الثقافية والدينية والأخلاقية والفقهية والقانونية والظروف التاريخية تفرض أحكاماً ورؤى واعتبارات لا تجري مجرى المعطيات الغربية.ويؤكد جدعان، أنه لم يكفّ، ولن يكفّ، عن تكرار الزعم أنَّ المشكل الأعظم الذي يحكم تلابيب الاجتماع العربي المعاصر ومفاصله يقع على وجه التحديد في شبكة القيم. وأنه نهض مرَّات عدة في وجه الأطروحة التي زعم أصحابها من الضاربين في «العقلانيَّة المسرفة»، أنَّ المسألة كلّها تكمن في «العقل العربي»، وأنَّ حلها يتمثل في تفرُّد العقل وفي تنصيبه إماماً في كلّ شيء، وأنَّ ذلك، بالطبع، لن يتحقَّق إلا بالمرور بـ «نقد» هذا العقل، الذي أطبق نقاده على أنَّه عقل خرافي، أو بياني، أو «سابق للمنطق»، أو ضارب في «الهرمسيَّة»... إلى آخر ذلك من السمات المرذولة التي تهبط بطبيعة هذا العقل وبقيمته في أداء دور إيجابي في النهضة العربيَّة.وأوضح أن موقفه كان، وما زال أنَّ هذه الرؤية، على الرغم من الأساس الواقعي السديد لها، تظلُّ قاصرة عن الإحاطة بمجمل المشكل، لأنَّ ثمَّة وجهاً آخر، بنيوياً، لهذا المشكل يكمن في الخلل العميق الذي يتلبَّس «الفعل»، أي القيم، أي منظومة القيم الفاعلة السائدة وهيكليَّة «السلَّم» الذي يحكم هذه القيم ويضبطها. فذلك وجه شاهد في جملة الأفعال التي تصدر عنا في حياتنا اليوميَّة. الظاهرة ليست جديدة بكلّ تأكيد.ويذهب إلى أن إلقاء النظر إلى وقائع الحياة الأخلاقيَّة العربيَّة أمس واليوم يشهد بجلاء الخلل الأخلاقي في هذه الحياة. ولاحظ ذلك الفلاسفة العرب قديماً، فوضع أبوبكر الرازي كتابه «الطبّ الروحاني» لإصلاح الأخلاق والنفوس. وتنبَّه يحيى بن عدي إلى المشكل نفسه في «تهذيب الأخلاق»، وتابعهما مسكويه في «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق». وتمَّ في أعمال هؤلاء، وغيرهم، فضح أخلاق: العُجْب، والكذب، والحسد، والنفاق، والظلم، وطلب الجاه والمناصب الدنيويَّة...، فضلاً عن «أمراض النفس» وآلامها، كالحزن، والخوف من الموت، والغم، وغيرها.وعبّر عن أسفه، كون الأمور لم تنقلب في الأزمنة الحديثة، إذ هي تسوء وتسوء، وتتَّجه بـ «فعل» ظفر الرأسماليَّة والنفعيَّة والفردانيَّة والعولمة، إلى مزيد من فساد القيم وانتشار مضادات «الفضيلة» وفق المصطلح القديم، مصطلح أفلاطون وأرسطو ومن تابعهما من فلاسفة العرب والإسلام.< Previous PageNext Page >
مشاركة :