في يناير2023، أقر مجلس النواب البحريني، بالإجماع برنامج الحكومة للسنوات الثلاث المقبلة «2023-2026»، في صيغته التوافقية، وذلك في جلسته الاستثنائية التي عقدت برئاسة «أحمد بن سلمان المسلم»، رئيس المجلس؛ ما يعبر عن حالة التعاون المثمرة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، لتحقيق تنمية شاملة متعددة الأبعاد، وصولاً الى مستهدفات رؤية البحرين الاقتصادية 2030، وما تعهدت به لتحقيق الأهداف الأممية للتنمية المستدامة 2030، وما تطلعت إليه الخطة الاستراتيجية للتعافي الاقتصادي، وتحقيق التوازن المالي في موعده المحدد 2024. وبشكل عام، جاءت «التنمية البشرية»، الأولوية الأولى في هذا البرنامج المتضمن أربع أولويات، على رأسها؛ رفع المستوى المعيشي للمواطنين بما يحافظ على مكتسباتهم إلى جانب أولويات «العدالة والأمن والاستقرار»، و«التعافي الاقتصادي والتنمية المستدامة»، و«الخدمة الحكومية ذات الجودة والتنافسية»، كما جاءت «التنمية البشرية»، أيضا على رأس المحاور الستة التي استندت إليها تلك الأولويات، وهي: محور «رفع مستوى المعيشة، والمحور السيادي والتشريعي، ومحور البنية التحتية والبيئة، ومحور التعافي الاقتصادي والاستدامة المالية، ومحور الخدمات المجتمعية، ومحور الأداء الحكومي والتحول الرقمي». وقبل أن يُصدر مجلس النواب موافقته، كان برنامج عمل الحكومة محل دراسة من قبل اللجنة التي رأسها النائب الأول لرئيس المجلس لهذا الشأن. وأثناء إعداد البرنامج، كان هناك حرص من قبل الحكومة على التعاون البناء مع هذه اللجنة، وتوفير ما يلزمها من معلومات وبيانات، وإجابة عن أية تساؤلات، إضافة إلى تبادل الرأي ووجهات النظر بشأن التعديلات المقترحة؛ ما جعل العلاقة بين اللجنة والفريق الحكومي تقوم على الثقة المتبادلة، والحرص المشترك على المصلحة الوطنية العليا. ومن خلال سلسلة من ورش العمل شارك فيها الجهاز التنفيذي الحكومي بمختلف مستوياته، عكفت الحكومة على إعداد هذا البرنامج، حيث عقدت تحت عنوان «التطلعات المستقبلية»، وبهذا فقد جسد في إعداده «مشاركة فاعلة»، من الفريق الذي سيتولى بعد ذلك تنفيذه. وفي واقع الأمر، كان إعداد الحكومة لبرنامج عملها (2023–2026)، قد جاء في ضوء مضامين الخطاب السامي لجلالة الملك، لدى افتتاحه دور الانعقاد الأول من الفصل التشريعي السادس لمجلسي الشورى والنواب، وما جاء به من توجيهات لصالح البحرين وشعبها، والتي بلورت أهداف البرنامج وأولوياته ومحاوره في تحقيق أهداف المسيرة التنموية الشاملة للمملكة. وقد قام نائب رئيس مجلس الوزراء الشيخ «خالد بن عبدالله آل خليفة» في 21 ديسمبر2022، بتقديم مشروع البرنامج إلى مجلس النواب، وجاء شعاره «من التعافي إلى النمو المستدام»، في إشارة إلى أنه يعد «همزة وصل»، بين تنفيذ خطة التعافي الاقتصادي وأهداف المملكة في التنمية المستدامة 2030. وإذا كانت «التنمية البشرية»، هي المهيمنة على أولويات برنامج عمل الحكومة ومحاوره، فقد هيمنت أيضًا على أهدافه العشرة، فجاء هدفه الأول يعني بتوفير فرص عمل واعدة للمواطنين، وخلق المزيد من الفرص النوعية في مختلف المجالات، وجاء الثاني يربط بين التنمية البشرية والأمن المجتمعي، بما يدعم جهود التنمية والازدهار، والثالث يتعلق بالحياة الكريمة وتطوير برامج الدعم المالي والاقتصادي لرفع كفاءة توجيه الدعم لمستحقيه، بما يلبي احتياجات المواطنين الأساسية، ويوفر لهم حقهم الكامل في الحياة الكريمة. وأقر الرابع بتعزيز التنمية البشرية، ودعم مساعي التنمية الشاملة والتحول إلى اقتصاد مبني على أنشطة ذات قيمة مضافة عالية. ومع السعي لتحقيق التوازن المالي، فإن هذا لا يعني التأثير على مكتسبات المواطنين، حيث جاء الهدف الخامس بمواصلة السعي لتحقيق أهداف برنامج التوازن المالي حتى نهاية 2024 مع تبني السياسات التي تهدف لرفع دخل المواطنين بما يحافظ على مكتسباتهم. فيما عززت باقي الأهداف مشاركة القطاع الخاص في تحقيق التنمية البشرية، والبناء على قواعد الشراكة؛ بما يسهم في تحقيق أبعاد التنمية الشاملة، ويضمن خلق فرص عمل للمواطنين. واستكمالا، عمل البرنامج على تعزيز التنمية المستدامة والحفاظ على الموارد والثروات الطبيعية وتنميتها وحسن استثمارها، ودعم الجهود الدولية لمواجهة التغيرات المناخية، وقيام الحكومة بتطوير الأداء، وجودة الخدمات الحكومية واستدامتها للمواطنين. وإذا كان اكتساب الدخل يمثل أحد أهم أعمدة التنمية البشرية، مع الصحة والتعليم، فقد جاء في محور رفع المستوى المعيشي، ضرورة السيطرة على معدل التضخم بما يحافظ على الدخل الحقيقي للمواطن والقوة الشرائية له، كما حرص البرنامج على إبقاء الدعم مع تطويره ورفع كفاءته، بتطوير آليات تقديمه لمستحقيه بما يلبي احتياجاتهم الأساسية، ويوفر لهم حقهم في الحياة الكريمة، وتطوير المساعدات الاجتماعية المقدمة للطفل والأسرة والمسنين وذوي الإعاقة، ودعم المواطنين في الجامعات والمعاهد الحكومية، وزيادة كفاءة دعم الكهرباء والماء، ووضع خطط عاجلة تساهم في استقرار أسعار السلع وتوفيرها محليًا، وتبني السياسات التي ترفع المستوى المعيشي وخلق الفرص الواعدة ذات الأجر المجزي للمواطنين. وفي «محور التشريعات»، عمل البرنامج على تطوير التشريعات التي تسهم في مساعي تحقيق التنمية الشاملة، بما يعود بالنفع على المواطنين والارتقاء بمستوى معيشتهم، كما جاء خلق فرص عمل واعدة للمواطنين، كأحد أهم مكونات محور التعافي الاقتصادي والاستدامة المالية، بالعمل على تنمية الكثير من القطاعات، وطرح برامج ومبادرات لرفع الإنتاجية وتزويد المواطنين بالمهارات اللازمة، بما يتوافق مع متطلبات سوق العمل، بهدف رفع أجورهم، وتعزيز فرص توظيفهم كخيار أول وأساسي، وزيادة دورهم في ريادة الأعمال، والاستمرار في تنفيذ برامج تطوير المؤسسات الناشئة والصغيرة والمتوسطة واستدامتها، وجعل المملكة الخيار الأول لجذب الاستثمارات، والاستمرار في تنفيذ المشاريع التنموية الكبرى التي تهدف إلى نمو الاقتصاد وخلق فرص حقيقية للمواطنين. أما الركيزة الثانية للتنمية البشرية، وهو «الصحة»، فقد جاء في محور الخدمات المجتمعية، تحت عنوان «تعزيز جودة الخدمات الصحية»، متبنيًا استدامة خدمات الرعاية الصحية ذات التنافسية العالية، بما يعزز من جودة الحياة، ومواصلة تنفيذ مشروع الضمان الصحي للارتقاء بالخدمات الصحية للمواطنين، مع سهولة وسرعة حصولهم عليها، وتطوير سياسات ومبادرات في مجال الصحة العامة وزيادة الوعي الصحي والوقاية، والارتقاء بأداء المؤسسات الصحية وكوادرها الطبية، فضلاً عن توفير الأمن الغذائي والمائي، ومواصلة تطوير أنظمة الصرف الصحي، والمشروعات الحكومية والخاصة لزيادة المرافق الصحية. وجاء «التعليم»، وهو الداعم الثالث للتنمية البشرية، أيضًا ضمن محور الخدمات المجتمعية، تحت عنوان «الارتقاء بأداء التعليم والتدريب وتشجيع البحث العلمي»، بمقتضى تطوير المناهج التعليمية للإسهام في صقل قدرات ومهارات الطلبة وربطها بمتطلبات سوق العمل، وتعزيز المناهج التعليمية لعدم المساس بمنظومة القيم والتقاليد، وبما لا يتعارض مع قيم الشريعة الإسلامية السمحاء والفطرة الإنسانية السليمة، ومواصلة الارتقاء بجودة وأداء المؤسسات التعليمية والتدريبية وكوادرها لتعزيز أداء التعليم والتدريب، وتعزيز فاعلية الحوكمة، بدءًا من مرحلة التعليم المبكر، تحقيقًا للتكامل بين المؤسسات التعليمية والتدريبية، وتشجيع البحث العلمي والابتكار بالشراكة مع المؤسسات التعليمية والارتقاء به. وإذا كانت «التنمية البشرية»، لا معنى لها في غياب استقرار المواطن في سكن ملائم، فقد عنى البرنامج بحلول إسكانية مبتكرة تلبي احتياجات المواطنين، والاستمرار في تطوير السياسات لضمانة استدامة الخدمات الإسكانية، وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، بما يسهم في زيادة وتنوع الحلول الإسكانية للمواطنين. كما جاء الإسكان في محور رفع مستوى المعيشة (توفير خدمات إسكانية لائقة وملائمة ومتميزة للمواطنين). ويخدم قطاع الإسكان ما جاء في محور البنية التحتية والبيئة من العمل على توفير المرافق العامة والارتقاء بها وصيانتها، وتعزيز فاعلية النقل الجماعي والطرق وتنوعها ووضع خطة زمنية لتخفيف الازدحامات المرورية، والاستمرار في توفير خدمات الكهرباء والماء بجودة وكفاءة وتشجيع ودعم استخدامات مصادر الطاقة المتجددة، مع مواصلة التطوير والرقابة على قطاع الاتصالات، بما يعزز من المنافسة وجذب الاستثمارات، ومواصلة تنفيذ الخطة الوطنية للتشجير والسياسات المتعلقة بتوسعة الرقعة الخضراء، ورفع كفاءة إدارة النفايات وتدويرها وتحقيق الاستغلال الأمثل لها، والعمل على خفض الانبعاثات في مختلف القطاعات للحد من التغير المناخي. ولأنها تنمية بشرية شاملة، فقد عنت بالارتقاء بوضع المرأة ودعم تقدمها وإسهاماتها في الحياة العامة، عن طريق مواصلة الجهود الوطنية الموجهة لتعزيز مشاركتها في التنمية الوطنية من خلال تفعيل وتطوير سياسات ومبادرات النموذج الوطني للتوازن بين الجنسين. ولأنها معززة لحقوق الإنسان، فقد اهتمت بتعزيز وحماية الحريات الفردية، وحقوق الإنسان، وفق أسس ومبادئ (الخطة الوطنية لحقوق الإنسان 2022 – 2026)، والاستمرار في تطبيق السياسات والبرامج المعززة للعدالة وحماية حقوق العمال، ومكافحة الاتجار بالبشر. ولكون الشباب يمثلون غالبية المجتمع البحريني، فقد عنى البرنامج بسياسات الارتقاء بقطاع الشباب، وتطوير البرامج المخصصة لهم، واكتشاف وصقل وإبراز المواهب وترسيخ نهج الإبداع والابتكار، وتوفير البيئة الجاذبة للنشاط الشبابي من خلال تعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، وتطوير ودعم السياسات التي تمكن الأندية والمراكز الشبابية من القيام بدورها، والعمل على إعلاء شأن المملكة في مختلف المحافل الرياضية، كما حرص البرنامج على تعزيز دور المجتمع المدني من خلال تبني سياسات توفير البيئة اللازمة لتمكين المؤسسات الأهلية من المشاركة في العملية التنموية، ومشاركة المجتمع المدني في عملية تطوير التشريعات. على العموم، هيمنت التنمية البشرية بأبعادها ومجالاتها المختلفة على برنامج عمل الحكومة (2023–2026)، بل يمكن القول إنه برنامج للتنمية البشرية، وليس هذا جديدًا على الحكومة البحرينية، فقد كان هذا هو طابع برامجها دائمًا، ولهذا كان ارتقاء المملكة في التقرير الأممي للتنمية البشرية، والذي احتلت فيه مكانة متقدمة ضمن تصنيف الدول الأعلى في هذه التنمية، حيث احتلت المرتبة (35) في تقرير عام 2022. ومع إنجاز برنامج عمل الحكومة بالتعاون المثمر بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، والقطاعين العام والخاص والمجتمع المدني، تكون المملكة قد قطعت أكبر أشواطها، وصولاً لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030.
مشاركة :