تُعد وثيقة المدينة من أشهر الاتفاقيات التي نظَّمت بين الأقليات الدينية واحترمتها، وأهم ما فيها أنها أول وثيقة في التاريخ تعترف بالحرية الدينية للأقليات، من اليهود خصوصًا، وحتى مع المشركين، ومعها هيمنة المسلمين، ولكن في احترام كامل لِنظام الجماعة المكوِّنة للمدينة. ولكن لماذا أصبحت وثيقة المدينة وثيقة سياسية فقط؟ وكيف كانت بنودها تأسيسًا مفتوحًا على الماضي والحاضر والمستقبل؟ تَدرّج مفهوم المدينة منذ زمان بعيد، فكان أفلاطون، قبل الميلاد، صاحب المدينة الفاضلة الذي حاول أن يُؤسس مجتمعًا يحكمُه الفلاسفة، باعتبارهم الحل الأنجع لكي يعيش الجميع في سلام، ولكن القِيم التي دعا إليها أفلاطون بقيت حبيسة عالَم المُثل، بينما كان الأمر متطورًا شيئًا ما مع القديس أوغسطين في القرن الرابع للميلاد، الذي كتب كتابًا ضخمًا سماه "مدينة الله"، في محاولة كبيرة للدفاع على الدين المسيحي إثر الهزيمة القاسية والمذلة لمدينة روما وما حصل لها من نهب وتخريب، مؤكدًا أن الشعوب في فلسفة التاريخ لها المصير نفسه، ولا يمكن لإرادة الله أن تتغير، وهكذا سار الأمر حتى عصر النهضة مع الفكر الغربي، حيث تمت خندقة المدينة في السياسة فقط. بالمقابل، فإن وثيقة المدينة في القرن السابع للميلاد بحثٌ لم يُدرَس بعدُ عميقًا، لأن ما كُتب حولها مجرّد وصف، لم يخرج عن إطار التأريخ والتاريخ، وأما مضامين الوثيقة فكانت منهجًا نبويًا تأسيسيًّا قويًّا، كما سنلحظ بعد قليل؛ أولًّا في ترك زعماء القبائل كما كانوا في الجاهلية دون تغيير، ثم بعد ذلك نظمت تعامل المؤمنين مع الأقليات الدينية الأخرى خاصة اليهود. قلنا إن المسألة الأهم في الوثيقة أنها تتضمن في البنود الأولى منهجًا نبويًّا حول تعديل الأخلاق الموجودة في الجاهلية التي كان لُبُّها هو الثواب من الإنسان، ولكن هذه الوثيقة فيها منهج نبوي آخر، حيث تَرَكت زعماء القبائل الذين كانوا قبل الإسلام وزكّتهم زعماء، ومن خلالهم يتمّ تمرير التوجيهات الدينية، يعني تركتهم أسياداً في قبائلهم عِوض تعيين الصحابة، لِمُحاربة النزعة القَبلية، فهؤلاء الزعماء أولياء للأمة، مع جعل المرجعية الأولى للحُكم الديني والدّنيوي بيد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، باعتباره مُرسَلًا من عند الله، وهذا منهج جديد في التوفيق بين الغيب والشهادة؛ امتصّ من خلاله الرسول الكريم النزعة القَبَلية، وأصبحت الأمة هي الكيان واندمج الجميع لِطاعة الرسول وحُكْمِهِ، لأنه ترك القبائل على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى. وأما الأمر الثاني المهم كذلك، هو بعد الحديث عن القبائل المكونة لكيان الأمة، انتقلت الوثيقة في البنود التالية للكلام عن المؤمنين عامة، وكيف يجب التعامل معهم وبينهم، فكان الحديث كله يشمل المؤمنين، أي بعد تأسيس اللبنة القريبة، تلاه التأسيس الموسَّع، للمؤمنين كلهم. وأما الأمر الثالث الأهم الذي شمل نصف بنود الوثيقة تقريبًا، هو تنظيم فلسفة التعايش مع الآخر منذ فجر الإسلام، وفي عهد النبي عليه السلام، وتحت إمرته، فتركت الوثيقة لليهود الحرية الدينية والدنيوية، وهذا أمر قلمَّا نجده في الديانات السابقة، وحتى الوضعية، إذن استوعب الإسلام الآخر سواء كان دينيًّا أو غير دينيّ. والقرآن الكريم يُحدثنا عن الشعوب والحضارات، ويُعطي إمكان التواصل والاستفادة والإفادة منها، رافضًا بذلك كل أنواع الحرب والقتال والاعتداء، إذ رتب القرآن القتال على القتال فقط، ابتدائيًّا وليس دفاعيًّا، بدليل قوله تعالى: (لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ) سورة البقرة الآية 256، وقوله أيضًا: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) سورة الكهف الآية 29، وقوله جل وعلا: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهم) سورة الممتحنة الآية 8، وقوله سبحانه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ) سورة التوبة الآية 6. *أستاذ باحث في الفكر الإسلامي والفلسفة - المغرب محمد كزّو*
مشاركة :