تدل زيارة السناتور الأمريكي الجمهوري ليندسي غراهام للسعودية وتصريحاته الإيجابية على أن لا ثابت في السياسة، وأن التحول والتبدل في المواقف وفقا للمصالح هو قانونها المركزي، وما هو اليوم بغيض سيكون غدا محبوبا، ولذلك فالحصيف هو من يدرك قانون السياسة الأبدي ويتخول مواقفه شيئا فشيئا، فلا ثابت أبدي في السياسة، وصدق الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في قوله المأثور: «أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون حبيبك يوما ما».كما يستلزم الدهاء السياسي الأخذ بقانون معاوية بن أبي سفيان الذي اصطلح على تسميته بـ«شعرة معاوية» حيث قال «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إن مدوها خلّيتها، وإن خلوا مددتها».هكذا هي السياسة في أصل الذهن العربي، وهي السياسة التي غابت عن السناتور غراهام في تصريحاته المغالية والمرفوضة قبل سنوات، والتي قال وفعل بغيرها اليوم، ولا عيب في ذلك أبدا، فالسياسي الماهر هو من يعيد توازنه ولا تأخذه العزة بالإثم، لاسيما مع إدراكه لميزان المصالح المشتركة الحاكمة بين الدول والشعوب.وأتصور أن ذلك سيكون عنوان مرحلة قادمة في العلاقة بين الشرق والغرب إجمالا، والمملكة بوجه خاص والعالم شرقا وغربا، وتلك هي سنة الحياة، ولكل قرن من الزمان قانونه الحاكم له، ونحن اليوم في مطلع ألفية جديدة، وقرن جديد، وسياق سياسي متغير.مع مطلع القرن العشرين تأسست الدولة السعودية الحديثة التي أطلق عليها اسم «المملكة العربية السعودية»، ومع تأسيسها التزمت بقانون العصر وميزانه، فتعلمت من كل الدول المتقدمة، واستفادت من خبرتها في تطوير قدراتها على مختلف الأصعدة التنموية، وكان أن توسعت في مشاريعها الإنمائية بالشكل الذي جعلها في مصاف الدول الاقتصادية الكبرى، وأهلها لتكون مع مطلع القرن الجديد أحد دول G20. وهذا يعني أن المولود قد كبر، وأخذ وقته الكافي في التهيئة والتنشئة الصحيحة، وأصبح يافعا قويا.إنه الواقع المعاش حاليا الذي يجب على الدول الكبرى أخذه بعين الاعتبار إقليميا ودوليا، والحصيف هو من يتأمل لحظات التحول، وأتصور أن كثيرا من تلك الدول باتت تدرك ذلك من بعد اجتياز المملكة لمخاض عسير كان يجب خوضه بقوة وصرامة، وتمكنت الدولة بقيادة أمير التحول من اجتيازه بقدرة وتمكن. من هنا يمكن قراءة زيارة السناتور غراهام في ظل حالة التشنج السياسي الخافت حينا والظاهر حينا آخر بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية، وبخاصة إزاء مقاربات المملكة الاستراتيجية في عدد من الملفات السياسية الإقليمية والدولية.لقد حرصت المملكة طوال القرن العشرين على الالتزام بكافة ما يتوجب عليها أخلاقيا وسياسيا واقتصاديا وأمنيا إزاء شريكها الاستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الدول الغربية، وخاضت معهم طوال القرن العشرين عديدا من المعارك السياسية والاقتصادية في مواجهة الشيوعية وكسر شوكة الدول القمعية، بل وعمدت إلى تعزيز تحالفها الأمني مع تلك الدول.حتى إذا سقطت الشيوعية وانهار الاتحاد السوفيتي، وعمدت الصين إلى تغيير سمتها السياسي والاقتصادي، وأخذ العالم مع مطلع الألفية الجديدة في التغير والتبدل، أرادت المملكة أن تكون حاضرة بتوازن في هذا العالم، لاسيما وأنها باتت إحدى كبريات الدول الاقتصادية استحقاقا لا مجاملة، وهو ما لم تدركه بعض غرف السياسة الغربية التي لم تقم بتحديث وعيها السياسي وفقا لمعطيات القرن الجديد، وبقيت في تصوراتها على ما كانت عليه خلال القرن 20، مما أوجد فجوة في مسار الفهم المشترك، وشكل ملمحا من ملامح التشنج السالف الذكر.خلاصة القول أننا في السعودية نعيش تحولا غير مسبوق في مختلف إطارات الحياة، ودون أي التزام أيديولوجي ضيق في مفهومه أو تعهد حزبي يقيد من حريتنا، ويعيق قرارنا السيادي وفق ما تقتضيه المصلحة أولا وتاليا، مع إدراك قيادتنا لمسؤولياتها الأخلاقية والاقتصادية والأمنية والسياسية على الصعيد الإقليمي والدولي، ويبقى على العالم شرقا وغربا أن يدركوا حقيقة هذا التحول الرافع شعار الشراكة المتكافئة كعنوان ملزم لحيثيات التوافقات القادمة بين المملكة ودول العالم.إنها سياسة قائد التحول، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، التي بها ومن خلالها تصبح السعودية بمثابة بيضة الميزان في سياق تأزم العلاقات الدولية بين المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمحور الشرقي الذي على رأسه روسيا والصين، لاسيما وأن سويسرا قد فقدت حيادها في ظل انفجار الحرب الروسية الأوكرانية، وهو مؤشر لنهاية نموذج، وابتداء نموذج دولي جديد.[email protected]
مشاركة :