في سورة النبي يوسف عليه السلام دروس جمة ونافعة لمن يتدبر، ويربطها بواقع الحياة المعاش وبأحداث التاريخ التي تتكرر ولا تنقطع مهما توالت الأعوام، ومهما تنوعت المناطق الجغرافية التي توجد عليها المجتمعات البشرية باختلاف دياناتها وثقافاتها، ذلك أن الطبيعة البشرية تكرر ذاتها من خلال سلوكيات وتصرفات تظهر من أفراد في ظروف معينة، قد يكون منها الغيرة والحسد ونكران الجميل والطمع والأنانية والقفز على العلاقات مهما كان قربها، كعلاقة الآباء بالأبناء، أو العلاقة الزوجية، أو علاقة الإخوة من أبوين، ومع أن الجهود التربوية داخل المنزل أو في المدرسة وكذا النصوص الشرعية ومكونات الثقافة الأخرى، كالقصص والشعر والأمثال الشعبية، تنحو لتأكيد ضرورة احترام العلاقة مهما كانت مبررات إنكارها، أو عدم الاهتمام بها. فالدين يحث على البر بالوالدين وصلة الرحم، "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا"، وفي الحديث "من سره أن يمد له في عمره ويوسع في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء، فليتق الله، وليصل رحمه". سورة النبي يوسف وعلاقته بإخوته تصف نموذجا سيئا، لكنه مع الأسف يوجد على أرض الواقع، وإن لم يكن بهذه الكثرة، لتكون النتيجة توتر العلاقة، وقطع صلة الرحم، فما حصل من إخوة يوسف مع أخيهم من محاولة التخلص منه بوضعه في البئر، وتغريبه عن أهله ومحيطه العائلي وتحوله إلى عبد يباع ويشترى ويفتقد الحرية ويدخل السجن، لم يكن ليحدث لولا مشاعر الحسد والكراهية التي وجدت لدى الأخوة من الأب، ليجد الشيطان منفذا يدخل منه للإيقاع بين الأخوة، "من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي" على أمل التفرد بالأب واحتكار محبته وحنيته، (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين). ورد في القرآن الكريم قوله تعالى، "إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم"، وقوله "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم". هذه الآيات تجسد واقعا غير حميد في العلاقات الأسرية، فكم من الشحناء حدثت بين الأبناء وآبائهم، لاختلاف في الرأي أو صعوبة في الإنفاق، كما يتطلع الأبناء وبما يتجاوز قدرة الأب، لتكون النتيجة هجرانا وقطيعة رحم قد تصل إلى المحاكم وينتشر خبرها في المجتمع، وكم من إيذاء جسدي ونفسي حدث بسبب تصرف من ابن أو ابنة نحو أهلها. الزوجات لهن نصيبهن في المآسي التي تحدث للبعض، فكم من زوج حاكت له زوجته المؤامرات وتعاونت مع من يختلف معه، أو مع أعدائه إن كان حاكما، وكم من ملك ضاع بفعل خيانة داخل البلاط دبرتها وأشرفت عليها زوجة، والأبناء لهم دور سيئ في بعض الأحيان، حين يدب الخلاف بينهم، ليتسببوا في مرض والدهم، أو خسارة تجارته، نظرا إلى ظن بعضهم السيئ من استيلاء الأخ الأكبر أو الأخ المحبوب من الوالدين على الثروة، ليخسر الجميع ما أفنى والدهم عمره في تحصيله، وبناء صرحه كشركة أو مصنع أو عقار أو مزارع. أعتقد جازما أن رمضان وما فيه من روحانية وقراءة القرآن يمثل فرصة مراجعة ضرورية للعلاقة بين الأبناء والآباء، وللأبناء مع بعضهم بعضا لتجاوز الخلافات وترميم ما فسد في العلاقات والعودة إلى حضن العائلة الدافئ، والتفاهم بحسن نية على ما يمثل مجال خلاف، لحفظ الوشائج والمحافظة على المال إن كان هو سبب الخلاف، حتى لا يخسر الجميع ما أفنى الآباء أعمارهم في تحويشه، وحتى لا تضيع الخبرة المتراكمة في مهب الريح. فهل يستفيد الجميع من عبر التاريخ القاسية على أصحابها بدلا من تكرار الخبرة المريرة. نقرأ ونسمع كثيرا من النصواص والأدبيات الحاثة على ضرورة بناء علاقات حميدة والمحافظة على ما هو قائم، لاستمرار أسرة متماسكة قوية يشعر الجميع بقرب بعضهم من بعض من حيث المشاعر والمواقف، لبناء مجتمع كبير متماسك بفعل تمسكه بقيم العائلة، وبمناسبة العيد لعله يكون فرصة سانحة يغسل فيها المتنافرون مشاعر الجفاء وتحل محلها المحبة والتواضع والإيثار والتسامح بين جميع أفراد الأسرة الواحدة، ليقتدي الجميع بيوسف مع إخوته، "قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم"، وقول يعقوب، "سأستغفر لكم ربي". أتمنى للجميع عيدا سعيدا ترفرف فيه السعادة والمحبة على الجميع.
مشاركة :