واشنطن: ممدوح المهيني تخيل أنك في باخرة كبيرة الحجم تخترق المحيط. فجأة ارتطمت بجبل جليدي ضخم. ساد الذعر بين الركاب وبدأت السفينة بالغرق شيئا فشيئا. تم تجهيز الزوارق الصغيرة ولكنها لا تكفي الجميع. من المرجح أن يهتف صوت أحد المسؤولين معلنا: «الأطفال والنساء أولا» وسيتراجع الرجال إلى الخلف. ذات السيناريو حدث في قصة باخرة التايتانيك حين تم إفراغ السفينة من الأطفال والنساء، وتم طرد الرجال الذين حاولوا التسلل بينهم. إذا كنت امرأة فستشعرين بأنك محظوظة لأنك ستنجين، وإذا كنت رجلا فستشعر بالبؤس المغلف بإحساس البطولة وستتمنى لو كنت امرأة. ولكن حدث شيء غير متوقع هذه المرة. اعترض أحد الرجال الغاضبين بالقول: «ولماذا النساء؟» وحجته: إذا كان من المفهوم أن ينقذ الأطفال أولا لأنهم عاجزون عن حماية أنفسهم ولم ينضجوا عقليا، فإنه من غير المفهوم مساواة النساء بهم. إذا كان ذلك شبه مقبول قبل أكثر من مائة سنة عندما غرقت التايتانيك، لماذا ظل الوضع كما هو عليه بعد مرور كل هذه العقود الطويلة التي أخذت فيها المرأة الكثير من حقوقها؟ النساء أصبحن يقدن الطائرات الحربية ويحكمن بلدانا ويرأسن شركات، ولا يتوقفن عن مطالبة الرجال بالمساواة التامة. ولكن عندما تنشب الحروب وتتطاير الدماء أو تغرق السفن، فسوف يكن أول من يركب الزوارق متشبثات بأطفالهن. لماذا أيضا يتم ربط المرأة مع الطفل حتى في العناوين الإخبارية التي تتردد حول العالم مثل «مقتل عشرات النساء والأطفال!» ولماذا لا يقال مثلا «مقتل عشرات الرجال والأطفال!». حتى لا أواجه أي غضب من النساء أو من المدافعين عن حقوق المرأة يجب أن أضيف الآن أن هذا ليس رأيي، ولكن هذا ما كتبه الكاتب الصحافي تشارلز كروثامر في أحد مقالاته المنشورة في كتابه الصادر حديثا بعنوان «الأشياء التي تهم». ولكن حتى هو لا يستحق النقد لأنه يصل بعد ذلك إلى بعض التحليلات المنطقية لربط المرأة بالطفل بشكل أكثر من الرجل. هناك من يقول: إن الرغبة العميقة لدى البشر للحفاظ على المرأة أكثر من الرجل يعود ليس لجمالها ولكن لأنها أكثر أهمية منه على المستوى البيولوجي. بمعنى أن قدرة المرأة على الإنجاب تجعلها قادرة على تكوين عائلة كاملة، على العكس من الرجال الذين سيفنى الجنس البشري بسبب عدم قدرتهم على الحمل. ولكن الكاتب لا يقبل هذا التفسير النفساني التطوري بحجة أنه يشبه تفسير لغز البيضة والدجاجة. ولكن التفسير الأقرب للصحة هو أن المرأة أكثر قدرة على العناية بالطفل لهذا يتم في الغالب ربطهما ببعض. لهذا عندما تقع الكوارث وتندلع الحروب، يتم إنقاذ النساء من أجل الأطفال وليس لأنهن كالأطفال. هذه نهاية مقبولة لهذا المقال الجميل المكتوب بحس كوميدي رائع وشرير في الوقت نفسه. ولكن من يتابع مقالات كروثامر في جريدة «واشنطن بوست» لن يعثر في الغالب على مقالات من هذا النوع الفريد الذي يفضله، كما يقول. أغلب مقالاته تركز على الشؤون السياسية التي يبرع أيضا في تناولها. هذه الأيام هو مشغول بتوجيه نقد شديد اللهجة للرئيس باراك أوباما الذي يختلف معه في كل شيء تقريبا. يؤكد كروثامر الذي كان ديمقراطيا في شبابه وأصبح جمهوريا فيما بعد (سأله مؤخرا المعلق جون ستيوارت عن هذا التحول فقال ساخرا: هذا التحول الطبيعي من المراهقة إلى النضج!) إنه يكتب في السياسة مضطرا. يقول في أحد مقالاته بأنه يفضل الكتابة عن الأشياء التي تحرك الروح وترقي العقل وتلهب الخيال مثل الفن أو الفلسفة أو الأدب، ولكن كل هذه الأشياء الجميلة تنهار دفعة واحدة إذا لم تضبط السياسة بالشكل الصائب. أكبر مثال على ذلك هو ألمانيا عام 1933، السياسة الصائبة هي الجدار الذي يحمي الناس من البربرية المستعدة للانقضاض في أي وقت. ولكن لأن ألمانيا لم تستطع وضع السياسة بالشكل الصائب لذا هدمت النازية بقيادة هتلر جدارها المتآكل وسحقت بعد ذلك كل الفنون والآداب والفلسفات والعلوم والحياة كلها. رائحة الحرية والسعادة التي كانت تملأ الهواء، حلت محلها رائحة البارود والجثث المحروقة. في هذا السياق يذكر كروثامر إحدى مقولات جون آدمز، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية الذي كتب مرة: «يجب أن أتعلم السياسة والحرب لأمنح أبنائي الحرية ليتعلموا الرياضيات والفلسفة والتاريخ والهندسة والتجارة والزراعة ولكي يمنحوا بدورهم الحق لأبنائهم لكي يدرسوا الرسم والشعر والموسيقى». لهذا السبب تحديدا يعترض المؤلف على رأي البيولوجي والفيلسوف لويس توماس الذي أجاب عندما سئل عن أهم منجز يرشحه لكي يرسل للفضاء كدليل على العبقرية البشرية، فقال: «سأصوت لموسيقى باخ، كل صوتي لباخ، ترسل مؤلفاته للفضاء مرة بعد أخرى. بالطبع، سنبدو كالمتبجحين!» يتفق الكاتب على عبقرية باخ، ولكن بسبب اعتقاده أن الفنون الأخرى تنحني أمام قوة السياسة، فسوف يكون الخيار الثاني الذي سيبعث على الفضاء هو الدساتير التي تؤمن بالحرية والعدالة مثل وثيقة الماجنا كارتا الإنجليزية أو الدستور الأميركي. لهذا السبب يعقد في أحد مقالاته مقارنة بين العالم الفيزيائي اينشتاين ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل. رغم عظمة اينشتاين في القرن العشرين فإن الشخص الذي كان من دونه سيتغير مسار التاريخ هو تشرشل بكل تأكيد. اينشتاين حقق اختراقا علميا إعجازيا، ولكن وجد علماء فيزياء اقتربوا من فكرته الرئيسية ولكنهم عجزوا عن فهمها بالكامل. كان من المتوقع أن الزمن سينجب لا محالة علماء آخرين سيصلون لما توصل له. ولكن تشرشل من الشخصيات النادرة في التاريخ التي من دونها سينهار كل شيء. الحضارة كلها كانت ستنحط وتنزلق في الظلام لو تمكن هتلر من السيطرة على أوروبا بالكامل. كروثامر يحمل درجة الدكتوراه في علم النفس من جامعة هارفارد، ولكن يعترف أنه أدرك بعد سنوات من الدراسة أنه يفتقد للقدرات الحقيقية لكي يكون مميزا في هذا المجال. ولهذا لم يتجه للكتابة الصحافية إلا في الثلاثين من العمر، ولكنه استطاع بسرعة أن يكون لنفسه اسما لامعا وأن يكتب في كبريات الصحف والمجلات الأميركية. من الواضح أن معرفته الواسعة بعلم النفس ساهمت في إبراز موهبته الكتابية، ولكنه يرفض أن يقحمها في قضايا سياسية واقتصادية لا يربطها شيء بعلم النفس. لذا يرفض في مقال له بعنوان «الإنسان الجواني. من يهتم؟!» التفسيرات النفسية التي طبقها الكثير من كتاب السياسة على الرئيس نيكسون ووصفها بالسطحية. من يهتم بماذا يفكر نيكسون بينه وبين نفسه، أو ماذا يحب أو يكره. الحكم يجب، كما يقول الكاتب، على السياسات على أرض الواقع وليس أي شيء آخر. ولكن لا يستطيع كروثامر - ككل المتخصصين في علم النفس فيما يبدو - كبح غضبه وحتى احتقاره لموجة ما يسمى ب «تطوير الذات». في أحد مقالاته يكتب كروثامر أن المخرج وودي آلن اعترف أثناء قضية الوصاية على الأولاد بينه وبين طليقته الفنانة ميا فارو أنه لم يحمم أطفاله أبدا أو يأخذهم إلى الحلاق، ولا يعرف من هو طبيب أسنانهم، ولم يحضر أبدا الاجتماعات المدرسية، ولا يستطيع أن يسمي أي أحد من أصدقاء أطفاله. كيف يمكن لهذا الشخص الغارق في نفسه والمفتقد للشعور الطبيعي للأبوة أن يتم إخضاعه لدروس تطوير الذات التي تحولت إلى «بزنس» يعتمد على مكننة المشاعر والتصرفات من دون نتائج حقيقية. المسألة إذن أعمق من ذلك. يضيف الكاتب: «نجح هذا البزنس لأن الأميركيين آمنوا أنهم بحاجة لخبير في شيء. خبير يعلمهم كيف يمشون أو يتكلمون أو كيف يثنون ركبهم». مع موضة تطوير الذات، أصبح كل سلوك وشعور إنساني بضاعة للتصنيع والتجارة. لم يعد يعرف الإنسان كيف يشرب ويأكل ويتزوج ويحب وينام ويعمل ويصادق إلا إذا دربه خبير على ذلك. يشن كروثامر في الكتاب غضبه ونقده المتواصل على الأفكار الليبرالية فيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد. هو محافظ اقتصاديا وسياسيا وليس اجتماعيا أو دينيا. في أحد مقالاته يشير ساخرا إلى أن الفرق الأساسي بين فريق المحافظين والليبراليين هو أن المحافظين يعتقدون أن الليبراليين أغبياء وسذج، والليبراليون بدورهم يعتقدون أن الجمهوريين مجرد حفنة من الأشرار قساة القلب. يذهب بعد ذلك للدفاع بأسلوبه العميق واللاذع عن رؤيته التي يصفها بالواقعية التي تؤمن بالتجربة والنتائج الملموسة وليس الأمنيات (من هذا النتائج إيمانه الكامل بفشل الحكومة الأميركية بمشاريع كثيرة مثل محاربة الفقر لذا يجب أن تبقى الحكومة صغيرة ومحدودة وتترك المجتمع بأفراده ومؤسساته وقيمه لكي يقوم بتصحيح نفسه). تعرض كروثامر أثناء دراسته الجامعية لحادث سيارة أدى إلى شلل النصف السفلي من جسده، ولكن لم يفقد أبدا حسه الساخر. في أحد مقالاته يحلل الكاتب بأسلوب طريف اعتقاد الأميركيين غير المفهوم بأن تحمل المعاناة والصبر على المشاق، هما ما يمنحان الأشياء قيمتها. هذا ما يفسر هوسهم بسباقات الماراثون الذي لا يتحصلون منها إلا على بطانية تلف عليهم وزجاجة ماء. هذه السباقات مهمة لأنها تشعرهم بقيمتهم الذاتية التي لا تبدو بأحسن حالاتها إلا من خلال الصبر والمعاناة. هذا أيضا يفسر الحركة الغريزية التي يقوم بها الناس عندما يركلون عجلات السيارة المستعملة قبل شرائها. إذا تحملت الركل فستكون صالحة للشراء! وفي مقال آخر يكتب بحزن عن رحيل كلبه «شتسر» الذي مات فجأة. يعترض الكاتب على من يعتقد بأن الحزن على رحيل الكلب مسألة زائدة في عالم مليء بالمعاناة الإنسانية. يقول من الطبيعي جدا أن يحزن الإنسان على رحيل مخلوق في غاية الجمال والطيبة والنقاء كـ«شتسر». ينقل عن أحد أصدقائه الذي حزن على موت كلبه قوله: «إنه ألطف مخلوق عرفته في حياتي. الكلب الوحيد الذي شاهدته يقبل قطة!».
مشاركة :