كان المترجمون يمثلون دائمًا حلقةَ اتصالٍ حيوية تتيح للثقافات المختلفة أن تَتفاعل فيما بينها؛ ومن ثَم فإن دراسة الترجمة نفسها دراسةٌ للتفاعل الثقافي. وقد كرّس الباحثان سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير مشروعَهما الأكاديمي للتفكير في الترجمة والكتابة عنها، والبحثِ في تاريخها، وتوسيعِ حدودِ تعريف مجال دراسات الترجمة، وضرورة التقريب بينها وبين الدراسات الثقافية. وقد جاء هذا الكتاب "بناء الثقافات: مقالات في الترجمة الأدبية" الذي ترجمه الراحل د.محمد عناني ليعبِّر عن مشروعهما بالتحليل والتفصيل والرصد للعناصر اللُّغوية والأدبية والثقافية لدراسات الترجمة، والتطوُّرات التي شَهِدها هذا المجال، مع ذِكر بعض النصوص المترجَمة التي تُعَد أوضحَ البيانات العملية اللازمة لدراسة مدى التفاعل الثقافي، والتأثير الذي تُحدِثه ترجمةٌ ما في ثقافةٍ من الثقافات، وكيفية إخضاع النص للثقافة القومية، وكيف يصبح المترجمون مساهمين في أبنيةٍ ثقافية معيَّنة، ومسئولين عن تكريسِ قيمٍ ثقافية على حسابِ قيمٍ أخرى. يقول عناني في مقدمته للكتاب الذي صدرت طبعة ترجمة الأولى عام 2015، وصدرت نسخته هذه عن مؤسسة هنداوي عام 2022، أن الكتاب يقوم على ثلاثة مقالات جديدة، الأولى هي المقدمة التي اشتركت باسنيت مع ليفيفير في تأليفها "ما موقفنا في مجال دراسات الترجمة؟" ويليها الفصل الأول الذي كتبه ليفيفير "التفكير الصيني والغربي عن الترجمة"، ثم الفصل الثاني الذي كتبَتْه باسنيت "متى لا تكون الترجمة ترجمة؟"؛ فأما المقال الذي كتبه المؤلفان معًا على شكل مقدمة فإنه يجمع مزيجًا من تاريخ الترجمة تتلوه مجموعة جديدة من الأسئلة والفُرَص المتاحة للبحث في المستقبل، كما يتضمَّن القضية الرئيسية لهذا الكتاب، ويُجيب على سؤال قد يطرحه أول من يتناول الكتاب لقراءته؛ ألا وهو لماذا وُضع عنوان بناء الثقافات لكتابٍ كتبه باحثان بارزان في الترجمة؟ وتدل الإجابة على الرحلة الطويلة التي قطعَتْها دراسات الترجمة على طريق التطور منذ عام 1978. وتقول حُجَّة باسنيت وليفيفير إن المترجمين كانوا دائمًا يُمثِّلون حلقة اتصال حيوية تُتِيح للثقافات المختلفة أن تتفاعل فيما بينها، وأما المرحلة المنطقية التالية التي تقول بها باسنيت وليفيفير، فلا تقتصر على دراسة الترجمات فقط، بل تشمل دراسة التفاعل الثقافي. ويتابع "ربما تكون النصوص المترجمة نفسها أوضح وأشمل "البيانات" "العملية" اللازمة لدراسة هذا التفاعل الثقافي، وتحقيقًا لذلك تطرح باسنيت وليفيفير ثلاثة نماذج ثبتَتْ فائدتها لهما في دراسة التفاعل الثقافي. فأما النموذج الأول فهو نموذج هوراس، الذي يميل المترجم فيه إلى إظهار الولاء لعملائه؛ أي لجمهوره المستهدَف. وأما الثاني فهو نموذج جيروم الذي يميل فيه المترجم إلى الإخلاص للنصِّ المصدر، وهو الكتاب المقدس في هذه الحالة، والنموذج الثالث هو نموذج شلاير ماخر الذي يؤكد الحفاظ على "غيرية" النموذج المصدر للقارئ المستهدَف. وهكذا فإن نماذج باسنيت وليفيفير المتعددة تساعد على دراسة الترجمات في ثقافات مختلفة، وفي فترات مختلفة، ولا تُوحي بأن نظريةً واحدة للترجمة صالحة لجميع الثقافات وجميع الأزمنة، كما أن تعدُّد النماذج يُقدِّم الأدوات النقدية الجديدة اللازمة لإجراء مثل هذه الدراسة، مثل مفهوم "الشبكات النصية" المستقَى من العمل الذي قام به بيير بورديو، والمقصود بالشبكة النصية مجموع الأشكال الأدبية والأنواع الأدبية المقبولة التي يمكن التعبير بها عن النصوص. مثلا نرى أن الروايات الصينية تلتزم مجموعةً خاصة بها من القواعد، وهي قواعد تختلف عن الطرائق التي تُبنَى بها الروايات ـ غالبًا ـ في الغرب؛ وتؤدي هذه "الشبكات" إلى أنساق توقعات معيَّنة لدى كل جمهور، ولا بد للمترجمين وخصوصًا مُؤرِّخي الأدب من أن يأخذوا هذه الشبكات في اعتبارهم حتى يقدموا ترجمات فُضْلَى و/أو تحليلات فُضْلَى للترجمات. ومن أشد ما يُثير اهتمامنا في المقدمة مجموعة الأسئلة التي تطرحها باسنيت وليفيفير، فهما يسألان مثلًا: لماذا تُترجَم نصوص معينة ولا يُترجَم غيرها؟ وما الغاية الخفية وراء الترجمة؟ وكيف يستخدم أصحابُ هذه الغايات المترجمين؟ هل نستطيع التنبُّؤ بالتأثير المحتمَل لترجمةٍ ما في ثقافة من الثقافات؟ وتقول باسنيت وليفيفير إن مستقبل هذا المجال مُشرِق وضَّاء؛ فميادين البحث مستقبلًا هنا شاسعة ومن بينها دراسة تاريخ الترجمة ابتغاء زيادة دقة الحكم على الوضع النسبي الحاضر، ودراسة الترجمة في عهود ما بعد الاستعمار ابتغاء إعادة تقييم أفضل للنماذج القائمة على المركزية الأوروبية، ودراسة الأنواع المختلفة للنقد، وكتب المنتخَبات، والمراجع، والترجمات، حتى نرى كيف تُخلَق صورُ النصوص وكيف تعمل في إطار ثقافة من الثقافات. ويضيف أن أندريه ليفيفير يبين في الفصل الأول "التفكير الصيني والغربي عن الترجمة"، كيف يمكن للشبكة النصية أن تساعد الباحثين في التحليل المقارن، وهو ينظر إلى مفهوم الترجمة من الزاوية التاريخية، ونرى في هذه المقالة الباهرة التي تضع تاريخ الترجمة في الغرب جنبًا إلى جنب مع تاريخها في الصين، أن تعريفنا للترجمة (عند الجنس الأنغلوجيرماني الأبيض) قد لا يتَّسِم بالعالمية التي يفترضها بعض أصحاب النظريات. ويُقارن ليفيفير بين نظامٍ في الغرب يكتب الترجمات فيه دائمًا مؤلِّفٌ واحد ويقرؤها القُرَّاء في صمت وبين نظامٍ في الصين يغلِب أن تكون الترجمات فيه شفوية الطابع، وكثيرًا ما تقوم بها فِرَقٌ من الباحثين، وكثيرًا ما تُقرأ و/أو تُنشَد علنًا. ويقول ليفيفير إن النص "الأصلي" في الغرب دائمًا ما يظهر عن وعيٍ أو دون وعيٍ خلف النص المترجم، وأما في الصين فإن النص المترجم كثيرًا ما يحلُّ محلَّ النص الأصلي، ولا يكاد القارئ يسأل أسئلة تُذكَر عن "الأصل"، ويفحص ليفيفير المؤسسات القوية التي قد تكون مسئولة عن تشكيل هذه الحساسية مثل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في الغرب والأباطرة الأقوياء في الصين. ونتيجةً لهذا يُرغِم ليفيفير القارئ على أن يرى أن تعريفنا للترجمة نفسه باعتباره نوعًا من النقل اللغوي يكمُن في باطن نُظُمٍ أكبر أو شبكاتٍ أكبر تحدِّد وتَحُدُّ من ممارستنا بدرجة أكبر مما كنا نتصوره إلى الآن. وهكذا فلن يستطيع الباحث أن يبدأ في رؤية طبيعة الدور الذي تنهض به الترجمات في بناء الثقافات إلا إذا رجع خطوة واحدة عن عملية النقل اللغوي المباشر، وأخذ في اعتباره المؤسسات الكبرى في المشاركة في بناء الثقافة. ويُواصل ليفيفير استكشاف مدى نفع مفهوم الشبكة النصية فيما يلي ذلك من الكتاب؛ إذ يفحص في مقاله"أبواب القياس: ملحمة كاليفالا باللغة الإنكليزية"، بناءَ هذا العمل وترجماته، وهو مجموعة من الشعر الشفاهي الفنلندي، أو نوع من الشعر الملحمي القومي الفنلندي، ليُبيِّن كيف يخضع القرَّاء والنُّقَّاد ـ عن وعيٍ ودون وعي ـ لمفهومٍ بَنَتْه الثقافة لشكل مقبول من الملاحم القومية، وهو شبكة تأثَّرت بمفهومنا لملاحم هوميروس أو ملاحم شمال أوروبا، وتقول حُجَّة ليفيفير إن الخضوع لمثل هذه الشبكة التي تَكمُن في فكرتنا عن الأدب العالمي ذو أهمية خاصة للآداب المكتوبة بلغات يتكلمها الناس على نطاقٍ ضيِّق. فإذا كانت إحدى الأمم تريد الاعتراف بها كأمة بين أُمَم الأرض، كما كان حال فنلندا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فإن بناء ملحمة قومية يُعتبَر أحد المقوِّمات الرئيسية، ويُبيِّن ليفيفير أن هذا البناء نفسه كان على وجه الدقة ما تصدَّى عددٌ من النُّقَّاد والمترجمين الفنلنديين للقيام به بانتظام. ويرى عناني أن باسنيت تقدم في مقالها "متى لا تكون الترجمة ترجمة؟" مفهومًا جديدًا تُسمِّيه "التواطؤ" لتحليل الترجمات الكاذبة، قائلةً إن القرَّاء يقبلون هذه الخدعة لأسباب منوَّعة، واعية وغير واعية، ونظرًا لعدد الأمثلة التي تستشهد بها، نجد أن الترجمات الكاذبة شائعة إلى درجة أكبر مما كان جمهور القرَّاء و/أو النُّقَّاد الأدبيون يتصورونه يومًا ما؛ إذ إن وفاة آرثر التي كتبها توماس مالوري، وقصيدة الحاج عبده اليزدي التي كتبها ريتشارد بيرتون من الترجمات الكاذبة، ونُصادِف غيرها في نصوص أدب الرحلات مثل رواية روبرت بايرون الطريق إلى أوزيانا، حيث يُقدِّم حوارات باعتبارها ترجمات. ولكن القارئ يعرف في عقله الباطن أن ذلك الرَّحَّالة لا يعرف لغة أبناء البلد. وهكذا فلا بد أنها حوارات مصطنَعة لا حقيقية. ولمَّا كان القرَّاء لا يريدون الاعتراف بهذا، فإنهم يتواطئون مع الكاتب في تكريس الواجهة، أي في القول بأن هذه النصوص و/أو الحوارات قائمة على الواقع لا على الخيال، ويُتيح هذا النظام أيضًا للكاتب الأصلي أن يظل الحُجَّة، وأن يمحو دور المترجِم في عملية الوساطة. وهذه النظرات الثاقبة من جانب باسنيت تُبيِّن لنا مدى صعوبة البَتِّ في الحد الذي يفصل بين الكتابة الأصلية، وبين الترجمة، وكيف يتواطأ النُّقَّاد مع ثقافةٍ تميل إلى وضع مفاهيم منفصلة ومتميزة إلى حدٍّ بعيد للكتابة والترجمة، ومثل هذا التفكير يجعل بناء الثقافات كتابًا جذَّابًا للباحثين في الدراسات الثقافية وفلاسفة اللغة على حدٍّ سواء. يؤكد أن كل من باسنيت وليفيفير يجيد استخدام هذه الأدوات النقدية الجديدة في بناء الثقافات عندما يُعيدان النظر فيما كانا يقولان به عن تطور الترجمة في السنوات السابقة. ففي الفصل الثالث "ممارسات الترجمة ودورة الرأسمال الثقافي: بعض ترجمات ملحمة الإنيادة باللغة الإنجليزية" يُقدِّم ليفيفير دراسة "عبر زمنية" لترجمات الإنيادة إلى اللغة الإنكليزية، ونوع تاريخ الترجمة الذي يُميِّز دراسات الترجمة في مرحلتها الوصفية في عقد الثمانينيات، ولكنه هذه المرة يُدرِج مفهوم "الرأسمال الثقافي" المُستعار من بيير بورديو في دراسته، ويشير به إلى المعلومات التي يحتاج إليها الفرد في أي سياق ثقافي حتى ينتمي إلى "الدوائر الصحيحة"، وهي المعلومات التي يقول ليفيفير إن الترجمة هي التي تقوم بتنظيمها ونقلها، ويهاجم ليفيفير النُّقَّاد الذين يضعون معيارًا عامًّا شاملًا من لونٍ ما للجودة والرداءة حتى يحكموا به على الترجمات، ويشرحوا نجاحها أو إخفاقها في إطار ثقافة من الثقافات، قائلًا: إن الأصح هو أن نجاح ترجمة معيَّنة لملحمة الإنيادة لفيرجيل لا يعتمد على جودة الترجمة بقدر ما يعتمد على صيت ثقافة اللغة المصدر ومدى هيبتها عند جمهور قرَّاء الترجمة؛ أي جمهور قرَّاء الصفوة الذين تتناقص مهارتهم في اللغة اللاتينية على مر الزمن في إنجلترا، فهم الذين يريدون الانتماء إلى الدوائر الأدبية والاجتماعية الصحيحة. ويلفت إلى باسنيت تزيد من مَزْجِها بين النظريات والإرشاد العملي في الفصل الرابع، "نقل البذور إلى تربة أخرى: الشعر والترجمة". والمشورة التي تُقدِّمها لمترجمي الشعر تُماثل ما تنصح به مترجمي الدراما؛ ألا وهي التركيز على ما تفعله اللغة في النص. ولا تؤمن باسنيت بأن الشعر روح أو حضور غير محسوس يستعصي على التعبير، وتُعارض الشعراء الذين يقولون، مثل روبرت فروست. إن الشعر هو ما يضيع في الترجمة، بل هي تؤيد الأطروحة التي قدمها الشاعر والمترجم فريدريك وِلْ في كتابه "الترجمة والنظرية والممارسة: إعادة تجميع برج بابل" قائلةً إن النصوص تتكوَّن من مفردات اللغة ـ من أسماء وأفعال وأنساق نحوية ـ وهي المادة نفسها التي يستخدمها المترجمون في بناء ترجماتهم. وتستشهد باسنيت بمشاهير المترجمين مثل عزرا باوند، وأوغسطو دي كامبوس، وإيف بونفوا، وأوكتافيو باث، لتُقِيم الحُجَّة على أن مهمة المترجم هي تفكيك المادة اللغوية الخام للشاعر ثم إعادة تجميع العلامات في لغة جديدة؛ أي إن المهمة لا تَكمُن في نسخ الأصل بل في تشكيل نصٍّ مماثل. وإذا كان باث يرى أننا نتصور ذلك في صورة تحويل، فإن باسنيت تتصوره في صورة نقل البذور إلى تربة أخرى.
مشاركة :