فاجأت ثورة 25 يناير جماعة «الإخوان المسلمين». وجدت الجماعة نفسها في صدارة المشهد السياسي بين يوم وليلة. شارك بعض أعضائها رمزياً في بداية التظاهرات. وعندما تبين أنها تتحول إلى ثورة شعبية واسعة، قررت قيادة الجماعة أن تلقي ثقلها في الميدان. مع ذلك لم تتوقع هذه القيادة أن يتنحى مبارك بعد أيام قليلة، وأن تظهر تجليات التجريف الشامل الذي ترتب على سياسات نظامه، ويصبح تنظيمها الكبير هو الأقدر على ملء الفراغ السياسي. لم تتصور قيادة «الإخوان» حينئذ أن تتحول حال «المحنة» التي هادنت نظامي السادات ومبارك على مدى عقود للخروج منها إلى «منحة» ثمينة، مثلما لم تتخيل أن تكون «المنحة» جسراً إلى «محنة» أكبر وأعظم من سابقتيها (1948 و1954). فقد جاءت «المنحة» فيما هيمنت على قيادة الجماعة حلقة ضيقة شديدة الانغلاق يُطلق عليها المتخصصون «التيار التنظيمي»، وتسميها أجهزة الأمن «التيار القطبي» نسبة إلى سيد قطب (مجموعة بديع، الشاطر، عزت، محمود حسين). وكَّرست انتخابات مكتب الإرشاد في 2009 هذه الهيمنة، إذ أُديرت بطريقة استهدفت إقصاء بعض أبرز رموز الجناح الإصلاحي، وفي مقدمهم عبدالمنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب. لكن هذا الجناح، الذي انفتح منذ الثمانينات على التيارات الأخرى، ظل محتفظاً بنفوذ معنوي مستمد من حضوره القوي في المجال العام. وكانت قيادة الجماعة حريصة على استثمار حضور الإصلاحيين وخطابهم المعتدل وعلاقاتهم الطيبة مع معظم القوى السياسية. كما أن منهج الإصلاحيين كان أكثر ملاءمة للظرف الموضوعي في الشهور التالية لإعلان تنحي مبارك. فقد كانت الجماعة في حاجة إلى الجسور التي أقاموها مع كثير من القوى. لذلك قبلت قيادتها مواقف بدت في حينه مؤشراً إلى ميل إلى نظام ديموقراطي حقيقي، وقبلت إلزام نفسها بتعهدين مهمين هما عدم تقديم مرشح في أول انتخابات رئاسية، وعدم السعي إلى نيل الغالبية في البرلمان. وهذا التوجه لم يصمد طويلاً لعدم انسجامه مع ذهنية القيادة المنغلقة ومنهجها، بخاصة عندما ظهر في الاستفتاء على الإعلان الدستوري الأول، ثم في الانتخابات البرلمانية نهاية 2011، أن التأييد الذي نالته فاق ما توقعته. لم يرق وعي تلك القيادة إلى المستوى الذي يتيح إدراك أن هذا التأييد يعود في معظمه إلى تعلق جمهور ضائع وخائف من المجهول بتنظيم رآه قوياً ومنتشراً، وبدا له أنه قادر على أن يأخذ بيديه. ولم تفهم تالياً أن هذا الجمهور إنما يبحث عن أي مُنقذ يملك القوة اللازمة لتحقيق تطلعاته، وأنه يمكن أن يتطلع إلى مُخلَّص آخر إذا وجده أقوى، أو تصور ذلك. وهكذا ظنت القيادة المهيمنة على القرار آنذاك أن الوضع ملائم لتحويل دفة الجماعة بسرعة قياسية من المشاركة إلى التغلب، ونقضت تعهدها بعدم الترشح في الانتخابات الرئاسية، ولم تحسب أنها إنما تغامر بفقد «منحة» لم يحلم «الإخوان» على مدى 80 عاماً بأقل منها. فقد أغرتها غطرسة القوة بتحويل اتجاه «الإخوان» من دون وعي بأنها إنما تأخذهم إلى «المحنة» الأكبر في تاريخهم. وظهرت في تلك اللحظة هشاشة موقف الإصلاحيين الذين سيقوا إلى هذه «المحنة» وكأنها قدر مكتوب عليهم، على رغم أن بعضهم توقعها ضمنياً عندما وصف قرار خوض انتخابات الرئاسة بأنه «انتحار سياسي». ولم تكتف القيادة المهيمنة حينها على الجماعة بذلك، بل أصرت على الانفراد التام بالسلطة، وقطع الجسور التي بناها الإصلاحيون. وأدخلت «الإخوان» في مواجهة شاملة مع القوى السياسية جميعها، فضلاً عن بعض أهم أجهزة السلطة العميقة، وأضاعت الفرصة تلو الأخرى لتجنب خوض معركة صفرية. رفضت أي حل سياسي قبل تظاهرات 30 حزيران (يونيو)، وأصرت على الصدام بعد إعلان 3 تموز (يوليو) 2013. وتواصل فشل هذه القيادة حتى في لجوئها إلى المظلومية سعياً للحفاظ على وحدة التنظيم الذي أُصيب بشرخ أخذ يزداد ويتحول انقساماً، في غياب أي اتجاه للمراجعة والاعتراف بأخطاء قاتلة يتعذر وضع حد لتداعياتها من دون تصحيحها، بخلاف ما حدث في «محنتي» 1948 و1954. كانت المراجعة سريعة بل فورية في «المحنة» الأولى، إذ سعى حسن البنا إلى احتواء أزمة حل الجماعة في 1948، ووضع أساساً للمراجعة قبل اغتياله في شباط (فبراير) من العام التالي. وعلى رغم تأخر المراجعة في «المحنة» الثانية، فقد بدأت مقدماتها مبكراً عبر الاتجاه إلى التهدئة وانتظار فرصة مواتية للعودة إلى الساحة. غير أنه لا مراجعة الآن، ولا مقدمات لها حتى اليوم، ولا خطوة واحدة إلى وراء سعياً إلى تهدئة، بل مواصلة الهرب إلى الأمام. وربما يمكن تفسير ذلك بأن «المحنة» الراهنة تأتي بعد «منحة» ثمينة تجاوزت الحلم «الإخواني» وأفقدت أصحابه توازنهم. كما أن فداحة خسائر «المحنة» الراهنة تخلق روحاً عدائية انتقامية في بعض أوساط الجماعة، الأمر الذي يتعارض مع متطلبات أية مراجعة. غير أن أهم ما يميز هذه «المحنة» هو تقلبات التنظيم في ظلها، والتحولات التي تحدث الآن داخله بحيث أن القيادة التي أخذت الجماعة إليها، تبدو الآن أكثر مرونة من إصلاحيين انضموا إلى تيار يقف ضدها اليوم، ويشمل أيضاً بعض من كانوا تابعين لها. كما يظهر جانب من تقلبات تنظيم الجماعة في خطابي الاتجاهين المتصارعين داخله. فالقيادة المنغلقة التي كانت مهيمنة عليه متهمة وأنصارها اليوم بالتخاذل والاستسلام. وهي ترد باتهام معارضيها الذين كان كثيرون منهم إصلاحيين بالميل إلى العنف. ومع أن هؤلاء يتهمونها بارتكاب أخطاء فادحة منذ نشوب الثورة، فهم لا يعون أن هذا يستوجب مراجعة تبدأ بالاعتراف بهذه الأخطاء. وعلى رغم أن مؤيدي القيادة التي كانت مهيمنة على الجماعة يتهمون معارضيها بالميل إلى العنف، فهم لا يبادرون من جانبهم بإجراء مراجعة لتوجهات فقهية – سياسية وبنية تنظيمية تدفع بعض أعضائها إلى هذا العنف الذي يقدم سنداً لتضييق المجال العام ونزع السياسة من المجتمع. وهكذا تظل جماعة «الإخوان» في ذروة «المحنة»، وفي ظل احتدام الصراع داخلها، عقبة أمام تحول ديموقراطي أضاعت قيادتها فرصة تاريخية لتحقيقه حين أتتها «المنحة» بعد ثورة 25 يناير.
مشاركة :