أصبحت السياسة القائمة على الضغوط والابتزاز والإذلال أمرا عاديا في العلاقات الدولية سوى عبر تحقير الدول، أو الضغط عليها، أو فرض عقوبات عليها، أو وضعها تحت وصاية، أو إبعادها عن أماكن صنع القرار أو وصم قادتها – هذا غيض من فيض الممارسات الدبلوماسية التي طبعت السنوات والعقوبات الماضية. هذا هو الموضع الذي اختار الباحث والأكاديمي الفرنسي برنارد بادي التركيز عليه في كتابه «عصر الذل» – وهو يعتبر أن سياسة الغرب القائمة على الصلف والغطرسة قد ارتدت عليه في أحيان كثيرة بعواقب كثيرة، وأفرزت نتائج عكسية ومن بينها مؤتمر باندونغ الذي شهد حضور عديد القادة من أمثال جمال عبدالناصر في سنة 1955، بالإضافة إلى رئيس وزراءالهندجواهر لال نهرووجوزيف تيتورئيسيوغسلافيا وغيرهم، وقد تبنى المؤتمر مجموعة من القرارات لصالح القضايا العربية وضد الاستعمار. المؤلف أكاديمي بارز في الجامعات الفرنسية والأجنبية وهو يعتبر، من خلال تخصصه ومؤلفاته وتحليلاته من أبرز الخبراء المختصين في العلاقات التاريخية والسياسية بين الدول، وقد ألف أكثر من ثلاثين كتابا ومن أهمها «دبلوماسية المصالح»، و «منطق القوة»، وصولا إلى كتابه الجديد «عصر الذل». يستدعي المؤلف التاريخ وعلم الاجتماع السياسي في كتابه الجديد، وهو يعود بنا إلى جذور الإذلال: مركزا خاصة على الحركة الاستعمارية الغربية التي حدثت في القرن التاسع عشر، والتي أدت إلى ما يسميه صعود النزعة الانتقامية في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. يخلص المؤلف إلى الدعوة إلى ضرورة إعادة بناء نظام دولي يجد فيه المهانون ومجتمعاتهم مكانهم، وهو يرى أن صعود التيارات السياسية الشعبوية، على غرار انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية في عام 2016، وتصلب مواقف الأنظمة الشمولية وغيرها من العوامل الأخرى تؤكد الدور الهيكلي للإذلال في العلاقات الدولية. يواصل المؤلف النهج نفسه الذي تباناه في كتابيه السابقين عجز القوة (2004) والدبلوماسي والدخيل (2008) وهو يعتبر أن موجة تصفية الاستعمار في القرن العشرين على وجه الخصوص قد أدت إلى تقويض النظام العالمي الموروث من معاهدة ويستفاليا المبرمة في سنة (1648) وهو النظامً العالمي الذي كرس هيمنة عدد قليل من القوى الغربية على العالم. وهكذا أصبح الإذلال وسيلة للدول الغربية للحفاظ على تفوقها وهيمنتها على بقية دول العالم الثالث، ومنع وصول «الدول المنبوذة» إلى دول القوة والنفوذ في العالم. يعتبر المؤلف أن هذه السياسة الغربية القائمة على الإذلال قد ظلت على مدى العقود الماضية تولد الاستياء والعنف والرغبة في زعزعة الاستقرار العالمي الذي يكرس عدم المساواة والتمييز، وهو ما يمكننا رؤيته كل يوم في صراعات غير متكافئة بشكل متزايد واستفزازات ما يسمى بالدول «المارقة». وحتى القرن التاسع عشر، ظل العلاقات الدولية قائمة على موازين القوى، التي تحددها نخبة صغيرة من الأوروبيين، وهي لعبة مشفرة لا مكان فيها للشعوب، بحسب عبارة المؤلف في كتابه الجديد. يتطرق المؤلف إلى العلاقات الفرنسية الألمانية منذ هزيمة بروسيا في فيينا عام 1806. فقد ولد جيش الرايخ القوي من انتصاره عام 1871 في قاعة المرايا في قصر فرساي بفرنسا، ما أدى إلى ظهور دبلوماسية الانتقام عند الفرنسيين في ظل الجمهورية الثالثة، وإهانة ألمانيا اللاحقة في عام 1919 – بعد أن تكبدت الهزيمة في الحرب العالمية الأولى (1914-1918). كما يسلط الضوء على الإذلال الذي تعرضت له اليابان بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1945، والمرتبط بنزع السلاح منها، مؤكدا أن تلك الإهانات لا تزال تمثل الوقود الذي يؤجج المشارع القومية اليابانية. أما النوع الثاني من الإذلال الذي يتحدث عنه المؤلف فهو يتمثل في «الحرمان من المساواة» وهو نوع سائد في العلاقات الدولية الحالية التي تقوم على انخرام العلاقات الدولية. إنها تتعلق بالمجتمعات الموجودة خارج إطار معاهدة ويستفاليا الكلاسيكية، والتي سرعان ما تعتبر أقل شأنا من الدول الأوروبية، والتي يجب بالتالي أن تكون «رمز التقدم والحضارة» «متحضرة». طوال تاريخهم، كان الأوروبيون وعصبة الأمم ثم الأمم المتحدة انتقائيين للغاية في عمليات التكامل الخاصة بهم، واليوم يشكل مجلس الأمن ومجموعة الدول السبع دوائر مغلقة للغاية. ويأتي هذا الإذلال رداً على دبلوماسية الاحتجاج التي تتمرد على هياكل النظام الدولي وتسعى إلى توحيد الحلفاء ضدها. وأخيراً، هناك مذلة «بالوصم» تختلف عن سابقاتها، لأنها تندد بالسمات السياسية أو الثقافية الخاصة بالبلد. وهكذا تم إدانة كوريا الشمالية وإيران وكوبا ودول أخرى على أنها «دول مارقة» أو «محور الشر». ثم يختارون دبلوماسية الانحراف، ظاهريًا انتهاك قواعد النظام الدولي من أجل الحصول على رؤية، مثل مؤتمر باندونغ عام 1955 أول رد فعل منظم ضد سياسات الإذلال الغربية. يعتبر المؤلف أن الخلل القائم في العلاقات الدولية ينبع من النظام الدولي الذي يقوده الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والذي انبثق عن تداعيات ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945). يقول المؤلف: «إن الإذلال ليس عابرًا بل متجذرا في العلاقات السياسية الدولية، إذا إنه ينشأ من العديد من أوجه عدم المساواة الأصلية في النظام الدولي والتفاوتات التأسيسية والتنظيمية والوظيفية، التي تطمس القواعد المعمول بها». يبرز المؤلف التداعيات المترتبة عن إرث الاستعمار الغربي وتأثير ذلك في العلاقات الدولية في فترة ما بعد تصفية الاستعمار من مناطق عديدة في العالم، ويعتبر أن ثلثي الدول المعاصرة ستتواصل معاناتها في ظل هذا النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب كما ستستمر في خضوعها للمصالح الأجنبية. يقول المؤلف: «ظهر مؤتمر باندونغ عام 1955 أول رد فعل منظم لهذه الظاهرة. اعتبرت الدولة المستعمرة الأراضي المستعمرة (الهند الصينية، الهند وغيرها) استثناءات لقوانينها الوطنية، وكانت المعاملة غير المتكافئة متجذرة في مكانة الناس ذاتهم». يعتبر المؤلف أن قادة الدول التي تخلصت من الاستعمار، على غرار (هو تشي مينه، سوكارنو، إم. كيتا أو د. شياو بينغ) قد عانوا هم أنفسهم من هذا الإذلال في مساراتهم الشخصية، وهو يتطرق إلى استمرار النفوذ الفرنسي على عديد من الدول الإفريقية حتى بعد «تصفية الاستعمار» وحصولها على الاستغلال، كما يسلط الضوء على خضوع دول أمريكا الجنوبية على مدى عقود طويلة للمصالح الاقتصادية الأمريكية. لذلك لم يفاجأ أي أحد عندما وصل الأمر بالرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند إلى حد إملاء وفرض أجندة الانتخابات ومواعيدها على السلطات في مالي يوليو 2013، إثر التدخل العسكري الفرنسي في هذا البلد الإفريقي في تلك الفترة. يعلق المؤلف على هذا الوضع المنخرم الذي يسود العلاقات السياسية الدولية في عالم يهيمن عليه الغرب من خلال المؤسسات المنبثقة عن الحرب العالمية الثانية إذ يقول: «يعتمد هذا النوع الأول من عدم المساواة على هيكلة التفاوتات المرتبطة بالوصول إلى الموارد أو اتخاذ القرار في الهيئات الدولية». «تمثل منظمة الأمم المتحدة رمزا وشاهدا للنظام الدولي الحالي الذي وضع لبناته المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، حيث تم فرض امتياز المقعد أو العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى حق النقض أو الفيتو، ليصبحوا بذلك سادة اللعبة الجماعية وصانعي القرارات الدولية». أدت الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية إلى خلق تنافسً دائمً بين قوتين عسكريتين كبيرتين - الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي - ما منع القوى الوسطى في العالم، حتى بعد عام 1989، من العمل بشكل جيد، كما أنها وجدت صعوبات في بناء علاقات وسياسات خارجية سليمة بعيدا عن دوائر النفوذ العالمية. كتب المؤلف يقول متحدثا عن موازين القوى في الوقت الحالي: «لم تعد أوروبا تمثل مركز العالم، كما أن القوانين الأمريكية والتي تفرضها سلطات واشنطن حتى خارج حدودها الإقليمية لا تزال تمثل السيف المسلط على عديد من الدول التي لا تريد أن تدور في الفلك الأمريكي والغربي». يرى الكاتب أن هذا النظام الدولي الذي تسيطر عليه الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية هو الذي يدفع الدول الناشئة، التي تعاني من إنكار المساواة مع الدول الغربية، تنضم إلى مجموعة البريكس وهي تؤكد مسألة السيادة واختلافها مع المعايير الغربية ومن بينها تلك التي تتعلق بورقة حقوق الإنسان التي يلوح بها الغرب دائما. يعتبر الخلل وهذا التفاوت نابعا أيضا من بنية وهيكلية النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وهو النظام الذي يتسم بطبيعته الأوليغارشية للنظام الدولي، والذي يتجسد خاصة في إنشاء مجموعة الدول السبعة الأقوى اقتصاديا في العالم. يقول المؤلف في ثنايا كتابه الذي يبرز فيه مواضع الخلل في النظام العالمي الحالي وتأثير ذلك في العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول: «معظم قواعد هذا النظام الدولي لا يمكن قراءتها إلا من قبل عدد قليل من القوى الكبرى التي أرست دعائم هذا النظام العالمي، بحجة أن الدبلوماسية تعمل بشكل أفضل بهذه الطريقة». تتجلى هذه النزعة على وجه الخصوص في عدة مؤسسات وتكتلات عالمية، وخاصة منها مجلس الأمن الدولي ومجموعة السبع ومجموعة العشرين، ولا سيما مجموعات الاتصال غير الرسمية التي تهدف إلى حل النزاعات، على غرار تلك المتعلقة بيوغوسلافيا وليبيا وسوريا. يتعارض منطق «النادي» هذا مع إجراءات الأمم المتحدة، ويسهم في إضعاف أو غموض المعايير الدولية. تذهب نزعة الأبوية والهيمنة الغربية إلى حد معاقبة أنظمة معينة أو إقصاء أنظمة أخرى وعزلها. يقول المؤلف: «يتحول الإرث الاستعماري وما رافقه من إذلال إلى ذاكرة وسردًا جماعيًا وسردًا مؤسسًا تبنى على أساسه السياسات والمواقف. لذلك نفهم اليوم كيف أن الدول التي ظلت على مدى عقود تعاني من الإذلال الغربي تعمل على بناء نظام مناهض في مواجهة المشهد الدولي الرسمي، والذي نشهد ملامحه في تشكل مجموعة البريكس التي تضم الصين والهند وروسيا والبرازيل وجمهورية جنوب إفريقيا، وهي الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم. يضرب المؤلف عدة أمثلة على تمرد بعض القادة السياسيين على النظام الدولي، على غرار هواري بومدين (الجزائر) ومعمر القذافي (ليبيا)، فيدال كاسترو (كوبا) وهوغو شافيز (فنزويلا). يلاحظ المؤلف أيضا أن المجتمعات والشعوب هي التي أصبحت تتمرد على هذا النظام الدولي الذي يكرس الهيمنة الغربية، وهو يعتبر أنه لم يعد بإمكاننا تحليل النظام الدولي باعتباره فقط «صراعًا بين الدول»، على الرغم من أن مؤسسات الدولة في بعض الأحيان تكون هشة للغاية. وهكذا فقد أدت هذه العوامل التاريخية والسياسية والسوسيولوجية إلى ظهور حركات اجتماعية تشجب مثل هذه الهيمنة وقد ازداد زخم هذه الحركات المحلية التي تم توظيفها في نهاية المطاف من القوى المهيمنة في العالم لفرض أجندة معينة. مع ظهور العولمة وتنامي مفهوم التنشئة الاجتماعية للحياة الدولية، أصبح الإذلال سمة اجتماعية عالمية. لقد انهار النظام الويستفالي الذي كانت فيه كل دولة متساوية مع الأخرى، ولا تزال تعددية الأطراف المعاصرة تعتمد على هذا النادي الأوليغارشي للقوى الغربية العظمى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك على العالم الثنائي القطب في الحرب الباردة. يشير المؤلف إلى المخاض الذي يعيشه هذا النظام الدولي الذي يكرس هيمنة الغرب، وهو يؤكد ضرورة إعادة هيكلة العلاقات والمؤسسات الدولية، وتكريس سياسة الاندماج الاجتماعي الدولي، والتي يمكن من خلالها فقط وضع حد للإذلال الذي تعيشه بقية بلدان العالم وترميم انحرافات العلاقات والمؤسسات الدولية. لوموند
مشاركة :