بيروت - عُزلت القاضية اللبنانية غادة عون بقرار من المجلس التأديبي بعد أن قدم ضدها عديد السياسيين شكاوى إثر تغريدة نشرتها على "تويتر" اتهمتهم من خلالها بالقيام بتحويلات مشبوهة، في أحدث حلقة من حلقات الصدام الذي انطلق باكرا بين النخبة الحاكمة وعون التي تحقّق في قضايا فساد في القطاع المالي اللبناني منذ انهياره في 2019. وأفادت مصادر حقوقية بأن القاضية تتجه إلى استئناف القرار خلال 15 يوما، الذي يتعلق بدعاوى "قدح وذم" قدمها سياسيون بحقها. وتضامنا مع عون نفذت مجموعة من مؤيديها وقفة أمام قصر العدل في العاصمة بيروت، في حين قالت القاضية لصحافيين بعد صدور القرار "قمت بعملي ولم أرتكب أي خطأ وهذه الملاحقات كيدية.. عندي ثقة بالمجلس التأديبي وبرئيسه وأعضائه وأتمنى أن يفهموا وجع الناس". وتابعت "ملفاتي تم تثبيتها دوليا ولم أخترع شيئا ولدي أدلة.. لا أخاف من أحد حتى لو كانوا يريدون قتلي". والشكاوى التي طالت القاضية، بحسب صحيفة "النهار" المحلية خلفيتها سياسية وفي مقدمتها حملتها على المصارف وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة وشقيقه ومعاونيه وشخصيات أخرى مالية ومصرفية. وقال المدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية إنّ من أصدر القرار التأديبي بحق عون "لم يعر أي انتباه للتحقيقات التي أجرتها في أكبر قضايا الفساد"، معتبرا أنّ القرار "سيبقى وصمة عار في تاريخ المجالس التأديبية القضائية". ورغم الانتقادات التي طالت عملها، إلا أن حقوقيين رأوا في قرار عزلها "وصمة عار" في تاريخ القضاء في لبنان. وهذه ليست المرة الأولى التي تصطدم فيها عون بعراقيل من طرف المسؤولين اللبنانيين، إذ سبق أن أسدى نجيب ميقاتي رئيس حكومة تصريف الأعمال إلى قوات الأمن في فبراير/شباط الماضي تعليماته بعدم تنفيذ أوامر القاضية إثر توجيهها اتهامات في قضية فساد تتعلّق ببنكين. كما قامت عون مؤخرا بإلغاء قرار منع السفر الصادر بحق رياض سلامة، تمهيدا لمثوله أمام القضاء الفرنسي بعد أن استدعته قاضية للتحقيق معه في 16 مايو/أيار في جلسة سيوجه إليه الاتّهام خلالها وفق ما أكده الادعاء الفرنسي. وفسّر القرار الذي سارعت عون باتخاذه بأنه محاولة لقطع الطريق أمام مساعي محامي سلامة للحيلولة دون مثوله أمام القضاء الفرنسي والتحجج بأنه ممنوع من السفر. ورفض رياض سلامة مرارا المثول أمام عون، معتبراً أن ملاحقتها له تأتي في سياق "عملية ممنهجة لتشويه" صورته، مؤكدا أنه "لا يمكن للقاضي أن يكون خصما وحكما في آن واحد". وتمرّدت عون مرارا على قرارات صادرة عن مراجع قضائية، بينها مجلس القضاء الأعلى وأصرّت على متابعة التحقيقات في ملفات رغم كفّ يدها عنها. وجمّدت غادة عون العام الماضي أصول خمسة بنوك كبرى وأعضاء مجالس إدارتها على الرغم من عدم توجيه اتهامات لهم بارتكاب أي مخالفات، كما اتهمت سلامة بالإثراء غير المشروع في قضية التحقيقات المتعلّقة بفساد ثروته ويواجه بسببها شكاوى كثيرة ضده في لبنان ودول أوروبية، لكنه يصرّ على نفي الاتهامات الموجهة إليه، معتبرا أن ملاحقته تهدف إلى تشويه صورته. ومن أبرز الملفات التي تعاملت معها عون منذ بدء الانهيار الاقتصادي في لبنان في خريف 2019، الادعاء على نجيب ميقاتي وشقيقه وابنه في تشرين الأول/أكتوبر 2019 بتهمة "الإثراء غير المشروع" عبر حصولهم على قروض سكنية مدعومة. وذاع اسم عون خلال السنوات القليلة الماضية بعد ادعائها على مسؤولين بارزين ومصرفيين وموظفين متورطين في ملفات فساد كبرى، وفق القرارات الصادرة عنها. لكن ولاءها لرئيس الجمهورية المنتهية ولايته ميشال عون جعل عملها عرضة لانتقادات ومثيرا للجدل بعدما طالت إجراءاتها جهات سياسية على خصومة مع الرئيس السابق إجمالا. ولا تعتبر التدخلات السياسية في عمل القضاء اللبناني سابقة، إذ أثار قرار المحقق العدلي طارق البيطار في يناير/كانون الثاني الماضي باستئناف التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت أزمة قضائية حادة سرعانما تطورت إلى حد قيام النائب العام التمييزي غسان عويدات بتوجيه اتهامات إلى البيطار. وتعدّ قضية اغتيال الناشط اللبناني لقمان سليم المناوى لحزب الله أحد الأمثلة الحية عن نجاح التدخل السياسي في غلق القضايا دون محاسبة المتورّطين فيها، إذ لم يسجل التحقيق فيها أي تقدم رغم مرور أكثر من عامين على الحادثة، ما دفع عائلته إلى مطالبة الأمم المتحدة بإرسال بعثة تقصي حقائق. وبررت عائلة لقمان طلبها بشكوك حول احتمال وجود علاقة بين مقتله وانفجار مرفأ بيروت المروّع، فيما وجهت اتهامات في مناسبات سابقة إلى حزب الله باغتيال الناشط الذي عرف بمعارضته الشرسة للجماعة الشيعية. كما أعرب خبراء حقوقيون مستقلون في الأمم المتحدة مطلع مارس/آذار الماضي عن "قلقهم العميق من بطء التحقيقات في جريمة اغتيال لقمان سليم"، مطالبين السلطات اللبنانية بضمان محاسبة قتلته. واشتكى العديد من القضاة اللبنانيين من التدخل السياسي في الإجراءات القضائية التي تصل في عديد الحالات إلى حد استبدال القاضي أو تجميده. وفقد أغلب اللبنانيين الثقة في قضاء بلدهم على خلفية تدخل السياسة في التعيينات القضائية، فيما يعتبر عدد من القضاة محسوبين على طوائف وأحزاب سياسية. ويرى العديد من اللبنانيين أن التدخلات السياسية في القضاء أدت إلى ترسيخ سياسة الإفلات من العقاب، ليدفع الشعب اللبناني ثمن تفشّي الفساد في بلد باتت 41 في المئة من العائلات عاجزة عن الوصول إلى الطعام والأساسيات الأخرى.
مشاركة :