بالرغم من أنها عاشت طويلا فإن أحدا لم ينسها. كانت موجودة دائما ودائمة الحضور في اللقاءات والمؤتمرات الأدبية والكتابات النقدية التي تتعلق بأصول الحداثة الشعرية في العالم العربي. احتلت سلمى الخضراء الجيوسي مكانا متميزا إلى جانب رواد التحول الشعري الذي بدأ نهاية أربعينات القرن العشرين. وقفت إلى جانب يوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا وأدونيس وبدر شاكر السياب وأنسي الحاج شاعرة وناقدة ومترجمة. أحدثت ترجمتها لكتاب الناقد الأميركي أرشيبالد مكليش “الشعر والترجمة” التي صدرت عام 1962 دويا عاصفا في الحياة الثقافية العربية. ◙ امرأة استثنائية ◙ امرأة استثنائية عاشت زمن الآخرين حرصت الجيوسي إضافة إلى كتابة الشعر والنقد على أن تكون وسيطا بين الثقافة العربية الحديثة والعالم، فترجمت إلى الإنجليزية عددا من الروايات المهمة مثل “الصبار” لسحر خليفة و”بقايا صور” لحنا مينا و”نزيف الحجر” لإبراهيم الكوني. كما قامت بترجمة كتب شعرية كاملة لكبار الشعراء العرب مثل أبي القاسم الشابي وفدوى طوقان ونزار قباني وسواهم. وبالرغم من أنها أصدرت عام 1960 كتابا شعريا حظي في حينه باهتمام النقاد، غير أن موهبتها الشعرية لم تؤهلها إلى منافسة زملائها الذين اتجهت إلى الكتابة عنهم وتقديم تجاربهم إلى العالم، وبالأخص حين انتقلت إلى الولايات المتحدة وصارت تدرس في جامعاتها، ثم نجحت في اختراق مراكز البحث الثقافي الكبرى هناك فصارت مرجعا موسوعيا في كل ما يتعلق بالثقافة العربية. كانت الجيوسي لاعبا مهما في تأسيس حداثة ثقافية عربية وكانت في الوقت نفسه شاهدا محوريا على ما عاشته تلك الثقافة من تحولات كبرى، فكان كتابها “الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث” الذي نشر بالإنجليزية أولا ومن ثم تُرجم إلى العربية وثيقة مهمة شكلت مدخلا موثوقا به لدراسة الشعر العربي الحديث من خلال تجارب كبار مبدعيه. عاشت الجيوسي زمنها وزمن الآخرين، فكانت تبحث عن الشعراء الجدد ولا تنتظر أن يبحث الشعراء عنها كما يقول الشاعر الفلسطيني زكريا محمد. ذلك ما جعلها تمشي على أرض يلبي الشعراء فيها نداءها. كانت تمتلك موهبة لاكتشاف الشعراء خارج الوصفات الثابتة. وإذا ما كان الجزء الأكبر من اهتمامها قد انصب على الشعر الفلسطيني فلأنها فلسطينية ولأنها تدرك قيمة الشعر في الحفاظ على الهوية الفلسطينية وتجديدها. المسافرة الحالمة بالمستقبل ولدت سلمى الخضراء الجيوسي في مدينة السلط الأردنية عام 1928 لأب فلسطيني وأم لبنانية. قضت طفولتها في عكا بعد القدس الغربية بفلسطين. كتبت قصيدتها الأولى وهي في سن العاشرة. درست الأدبين العربي والإنجليزي في الجامعة الأميركية ببيروت. كما حصلت على درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة سوس بلندن عام 1970 عن أطروحتها “الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث” وهو كتابها الأساس الذي تُرجم إلى العربية في ما بعد. بسبب زواجها من دبلوماسي عاشت سلمى متنقلة بين مدن عديدة، منها روما ومدريد وبغداد وبون وبيروت ولندن. في بداية خمسينات القرن الماضي عاشت في بغداد فاندمجت بالأجواء الحداثوية التي كانت سائدة يومها، بعد أن تعرفت على نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي. ◙ بالرغم من أنها أصدرت عام 1960 كتابا شعريا حظي في حينه باهتمام النقاد، غير أن موهبتها الشعرية لم تؤهلها إلى منافسة زملائها في نهاية الخمسينات انتقلت للعيش في بيروت وسرعان ما صارت جزءا من جماعة مجلة شعر التي تزعمها يوسف الخال، والتقت يومها أدونيس وشوقي أبوشقرا ومحمد الماغوط وإنسي الحاج وفؤاد رفقة والخال الذي كان يُعتبر عراب الحركة الشعرية الحديثة. عاشت الجيوسي تلك الأجواء منفعلة بالجدل السائد حول الأشكال الشعرية. وبالرغم من أنها لم تتخل عن إعجابها بالشعر العربي القديم غير أنها تحمست لما كان الشعر العربي يشهده من تحولات في بنيته المضمونية والشكلية وكانت مؤمنة بأن التغيير سيستمر. تقول في ذلك “إن هذا الشكل سيصبح يوما ما شكلا قديما لأن كل شيء قابل للتغير”. عام 1960 أصدرت كتابها الشعري الأول “العودة من النبع الحالم” وفي عام 1975 بدأت مرحلتها الأميركية، حيث قامت بالتدريس في جامعات أميركية عديدة قبل أن تتحول إلى ترجمة الأدب العربي الحديث بتشجيع من جامعة كولومبيا. وفي عام 1980 وُلد في مشيغان مشروعها “بروتا” الخاص بالترجمة عن العربية. عاشت الجيوسي حياة عامرة بالإنجازات الكبيرة التي بدأتها بترجمة كتب مختارة لتنتهي إلى تأليف الموسوعات عن الأدب العربي الحديث. تقول “بنيت لنفسي طموحا وصغت لقلبي عرشا ولونته من شعاع الأصيل”. ◙ مكافحة في جبهات مختلفة ◙ مكافحة في جبهات مختلفة “موسوعة الشعر العربي الحديث” هي أول كتبها الموسوعية باللغة الإنجليزية، بدأت بتمويل قطري ثم تبناها العراق لتصدر عام 1987 بعد سبع سنوات من العمل. ضمت تلك الموسوعة أعمالا شعرية لثلاثة وتسعين شاعرا عربيا. وفي عام 1992 بدأت بتحرير “موسوعة الأدب الفلسطيني”. كما بدأت مشروعا شاملا عن الأدب في دول المغرب العربي. كان مشروعها عن الحضارة الإسلامية في الأندلس هديتها إلى التاريخ في الذكرى المئوية الخامسة لسقوط الأندلس عام 1992. خالقة موسوعات هي أشبه بمؤسسة متنقلة كانت تُدير العمل من بيتها. وبالإضافة إلى موهبتها في البحث والتقصي والكتابة كانت موهوبة في البحث عن مترجمين أكفاء وجهات تقبل بتمويل مشاريع غير ربحية. كانت تكافح في جبهات مختلفة لم يقو أحد على الصمود فيها. صفة لن تتكرر. وهي امرأة لن يكون لها مثيل في حياتنا الثقافية. وهو ما أهلها لتحصل على الكثير من الجوائز تقديرا لجهودها الاستثنائية: جائزة الشيخ زايد عام 2020، جائزة محمود درويش عام 2022، جائزة سلطان العويش عام 2007، جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز عام 2008، جائزة المجلس الأعلى للثقافة بمصر 2006. من الشعر وإليه امرأة استثنائية. شاعرة وناقدة وباحثة وأكاديمية خرجت من معطف الحداثة ليكون لها شرف تقديم الأدب العربي إلى العالم. ما من أحد فعل ما فعلته. كانت الوسيط بين العالم العربي في أرقى صوره والعالم. صوتنافي البرية حين خسرت السياسة رهاناتها. وهبت سلمى الخضراء الجيوسي العرب مكانا كانوا قد خسروه بسبب هزائمهم العسكرية والسياسية. قالت للعالم ما لم يقله أي سياسي عربي. غير أن ما يجب الاعتراف به أن العالم العربي لم يتأخر عن الاعتراف بجهودها العظيمة. سيدة فتحت نافذة واسعة تسلل من خلالها الأدب العربي إلى العالم. إلى آخر يوم في حياتها كانت تعمل على مشروع للسرديات العربية. عام 2021 عادت سلمى الخضراء إلى الشعر فأصدرت كتابها الشعري الثاني “صفونا مع الدهر”. وهكذا تكون قد بدأت بالشعر وانتهت إليه. كما لو أن مسيرتها الثقافية الحافلة بالإنجازات تقع بين قصيدتين. المثقفة الحداثوية التي اخترقت الثقافة العربية الحديثة ببحوثها وموسوعاتها ومؤسستها كانت شاعرة دائما.
مشاركة :