شاعت في الفترة الأخيرة الرواية التاريخية متخذة بنية فكرية ودرامية مختلفة بحيث لم تصبح الشخصيات المرجعية في الموضع البطولي الذي يباعد بينها وبين الطبيعة البشرية بخيرها وشرها ومثاليتها ودهائها وخطها المتصاعد بصرف النظر عن المتغيرات الاجتماعية والحضارية المحيطة بها.من هذا المنطلق تحررت الرواية التاريخية من المباشرة المرجعية وفتحت أفقا شاسعا لتعدد وجهات النظر وقدمت شخصيات التاريخ المعاصر في معظم الأحوال والقديم في بعض الأحيان من زوايا جديدة يمكن أن يختلف معها المتلقي طبقا لمنظوره الفكري وعلاقته بالقيم الثقافية التي تمثلها كل شخصية لكن المبدع في هذه الرواية الجديدة يؤكد للمتلقي أن ما يقوله هو رؤية أو شعاع يمر من نافذة خاصة يساعد على إنارة التاريخ وليس حكما على الشخصية بحال من الأحوال، وهذا التوجه يعمل على نشر ثقافة التعدد والحوار ووضع الذات البشرية بكل ما لها من منجز فكري وجمالي موضع التأمل لاستكشاف الدوافع النفسية وقوانين التغير المجتمعية، وهذا ما فعله الأديب وائل لطفي في روايته "اسمي مصطفى محمود" "سيرة التحولات"، فقدم قراءة بضمير المتكلم على لسان المفكر مصطفى محمود أي أن الراوي تقمص الشخصية وعمل على تحليلها من الداخل أي من وجهة نظر نفسية مراعيا في الوقت نفسه قراءة سيرة تحولات الشخصية في ضوء الفترة الاجتماعية الثرية التي عاصرها مصطفى محمود (1921 – 2009).إن عصر مصطفى محمود يعد مساحة شاسعة لكثير من التحولات بالفعل، فالمؤلف استطاع أن يضع سيرة الرجل في سياقها الحضاري الناطق بحركة التاريخ في ما يقرب من قرن حافل بكثير من الأفكار والتكنولوجيا وإعادة صياغة الخريطة العالمية، فهذه الفترة بالفعل يمكن أن يستخلص المبدع منها كثير من المفاهيم التي غيرت وجه العالم، وفي بؤرة تلك المفاهيم عاشت شخصية البطل تتجادل مع المعطيات الثقافية المحيطة بها من عصر الاستعمار الفعلي إلى الاستقلال والحلم حتى الانكسار ومحاولة البحث عن طوق النجاة في إنسانية تصارع الغرق.لقد أدرك مصطفى محمود الثلث الأول من القرن العشرين في فترة الطفولة والنشأة الأولى، وكانت أصداء النظريات العلمية الكبرى منتشرة في الأوساط الاجتماعية بشكل عام، وعبرت عن ذلك مجلات مثل المقتطف والهلال بالإضافة إلى الرسالة والثقافة ثم المجلة الجديدة التي كان يكتب فيها نجيب محفوظ الشاب آنذاك مقالاته الفلسفية مع تخرجه في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول –جامعة القاهرة الآن– وبإمكان القارئ الكريم أن يجد صدى هذه الأفكار في ثلاثية محفوظ المكتوبة أو المرئية في السينما من خلال شخصية كمال عبدالجواد الذي كان يكتب في مطلع الثلاثينيات مقالات فلسفية ذات مرجعية علمية.تفاعل مصطفى محمود مع متغيرات عصره واستطاع أن يقوم بعمليات التحول الثقافي عن قناعة وتطور فكري، وهذا ما أكدت عليه رواية وائل لطفي، فقد كان اختيار المؤلف لمصطفى محمود نتيجة ما ارتبط بهذه الشخصية من علامات فكرية تتواصل مع معطيات العصر من جهة وتؤكد إرادة الذات في اختياراتها لأسلوب حياتها مع قراءة مستجدات التاريخ المحيطة بها من جهة أخرى.أفاد وائل لطفي من المرجعية التاريخية الخاصة بسيرة مصطفى محمود وأعماله الفكرية واستخلص منها ما يناسب سيرة التحولات التي انطلقت منها روايته، وفي الوقت نفسه قدم تحليلا للسياق الاجتماعي الذي عاش فيه مصطفى محمود منافسا لكبار الإعلاميين طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت المؤسسات الإعلامية بشخصياتها الكبرى تقوم بدور كبير في توجيه المجتمع بل اتخاذ القرارات المؤثرة في السياسية المحلية والإقليمية والعالمية، وهذا ما جعل مصطفى محمود يطمح لأن يتجاوز العمل المؤسسي مع الوقت ليصبح هو نفسه مؤسسة علمية وثقافية لها منطلقات فكرية تناسب المرحلة السبعينية في مصر على نحو خاص.إن قارئ رواية "اسمي مصطفى محمود" لوائل لطفي لن يعيش مع شخصية واحدة إنما سيرى عصرا من التحولات الكبرى في تاريخ المنطقة، يرتبط ارتباطا وثيقا بمنظومة فكرية عالمية قامت على النزق العلمي المؤثر في الجوانب الروحية. فقد قدم لطفي قراءة نقدية لشخصية مصطفى محمود محللا التاريخ والسياق المعرفي الذي أنتج هذه الشخصية التي أسهمت بدورها في تدعيم تغييرات كبرى وصلت إلى درجة من التناقض بشكل غير مبرر أحيانا سوى إجادة شخصيات القفز من السفن في اللحظة المناسبة، فالتحولات الفكرية التي رصدها وائل لطفي هنا بالفعل تكاد تأخذنا إلى التحولات الكفكاوية الكابوسية وهذا ما يعاني منه سياقنا الفكري بطابعه الانفعالي أحيانا على حساب القراءة الناقدة، ويحسب للرواية أنها تدعونا لتأمل التاريخ بعقل نقدي.
مشاركة :