بعكس الطقس المشمس في باريس أمس، كانت سماء الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي شديدة الاكفهرار سياسيا وقضائيا على السواء، وأصبح من الواضح أكثر فأكثر اليوم أن طريق العودة إلى قصر الإليزيه، التي أرادها ساركوزي قصيرة وسهلة العبور، أضحت في الواقع مزروعة بالأشواك. ولم يعد من الواضح اليوم أن حلم العودة سيتحقق للرئيس الذي فشل في الاحتفاظ بالكرسي الرئاسي لولايتين، بعكس ما فعله سلفه الرئيس اليميني جاك شيراك، وقبله الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران. آخر «مطبات» ساركوزي استدعاؤه أمس للتحقيق معه في الفضيحة المسماة «بيغماليون»، وهو اسم شركة الخدمات اللوجيستية والإعلامية التي تولت تنظيم مهرجاناته الانتخابية وكل ما يتلازم معها سنة 2012. وأساس هذه الفضيحة أن هذه الشركة، التي كان يملكها مقربون من الأمين العام السابق لحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية الذي تحول لاحقا إلى حزب «الجمهوريون» وساركوزي رئيسه اليوم، قامت بتحرير فواتير وهمية بالملايين، سعيا لإخفاء تخطي حملة المرشح ساركوزي سقف المصروفات المسموح بها للحملة الرئاسية، علما بأن القانون الفرنسي ينص على أن مصاريف الحملة الانتخابية لا يجوز أن تتخطى مبلغ الـ22,5 مليون يورو، وأنه يتعين على كل مرشح أن يقدم جرد حساب بها إلى المجلس الدستوري، الذي يتمتع بصلاحيات التصديق عليها أو رفضها. والحال أن المجلس المذكور رفض التصديق بحجة أن المصاريف تخطت السقف المسموح به ببضعة مئات من الآلاف، لكن مع توالي الأيام بينت التحقيقات أن هذا المبلغ ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، ذلك أن شركة «بيغماليون» قامت بتحرير فواتير مزورة وجهت للحزب اليميني لتغطية نفقات مهمة خاصة بالحملة الانتخابية. وبحسب الأرقام التي توصلت إليها التحقيقات القضائية، فإن هذا المبلغ يصل إلى 18.5 مليون يورو، وكان يفترض أن يكون من ضمن النفقات الرسمية للمرشح ساركوزي. وحتى أمس، كان ساركوزي يؤكد أنه لم يكن يوما على اطلاع على هذه الجوانب اللوجيستية، التي كانت من مهمة مساعديه، وأن التهم الموجهة إليه «لا تعدو كونها مهزلة»، لكن مدير حملته الانتخابية غيوم لامبير اعترف للشرطة أنه أطلع الرئيس السابق على مذكرة من المحاسب المختص، تشير بوضوح إلى تجاوز السقف المحدد وتحظر أي إنفاق إضافي. وأمس مثل ساركوزي صباحا أمام قسم القضاء المالي في محكمة باريس، وكان من المتوقع أن توجه إليه اتهامات رسمية، ما يعني انضمامه إلى 13 شخصا آخرين وجهت إليهم تهم مخالفة القوانين والتستر والتزوير سيقوم القضاء بملاحقتهم. وإذا حصل مثل هذا الأمر فإنها تكون المرة الثانية التي توجه فيها التهم للرئيس السابق: المرة الأولى كانت بصدد استخدام نفوذه للحصول على معلومات سرية خاصة بتحقيق آخر كان يتناوله، والضغط على الجهاز القضائي لتعيين أحد القضاة المتعاونين معه في منصب رفيع، وهو ما يدخل ضمن خانة الرشوة والفساد. وسبق أن ورد اسم ساركوزي في عدد كبير من الفضائح، لكنه حتى الآن لم تتم إدانته في أي منها، بيد أنه من الواضح أن تواتر الفضائح، وخصوصا ما يتناول المصاريف الانتخابية والإفساد من شأنه أن يضعف موقف ساركوزي، ويشوه صورته لدى الرأي العام، ويزيد العوائق أمام خوضه المنافسة الرئاسية العام القادم. والواقع أن العقبات السياسية ليست أقل شأنا من العقبات القانونية، فالرجل ومنذ عودته إلى رئاسة حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية «الجمهوريون اليوم»، لم ينجح في فرض نفسه على منافسيه، أو أن يظهر بصفة «الرجل المنقذ» التي حاول وأنصاره الترويج لها. وقبل أن تفتتح رسميا معركة الترشح عن الحزب في الانتخابات التمهيدية، برزت تخمة المرشحين، وأخطر هؤلاء على ساركوزي هو رئيس الحكومة ووزير الخارجية الأسبق الآن جوبيه الذي يبرز على أنه الأكثر شعبية في صفوف الحزب ولدى اليمين بشكل عام، ثم هناك رئيس حكومة ساركوزي السابق فرنسوا فيون، ووزير الزراعة السابق برونو لومير، والوزيرة السابقة ناتالي كوسيوسكو موريزيه. وقد زاد أمس عدد المرشحين واحدا، وهو جان فرنسوا كوبيه، كما أن هناك مرشحين آخرين أقل أهمية. ويرى المراقبون في تعدد الترشيحات مؤشرات على ضعف ساركوزي داخل الحزب، إذ لم يستطع أن يفرض خطا سياسيا يلتزم به الجميع، أو أن يكون الشخص الذي يلتف حوله الآخرون. والمشكلة ليست فقط في شخصه، إذ إن 74 في المائة من الفرنسيين لا يريدون أن يعود رئيسا للجمهورية، لكن أيضًا في خطه السياسي اليميني الذي يقترب أكثر فأكثر من أفكار ونهج الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف). ويدافع ساركوزي عن خياراته السياسية بالتأكيد على أن المجتمع الفرنسي يميل يمينا، وبالتالي يتعين «الالتصاق» بها إذا كان اليمين يرغب في العودة إلى السلطة، وعدم ترك الباب مفتوحا أمام الجبهة الوطنية ومرشحتها مارين لو بن. وكل هذه المسائل يفترض أن تحسم في الانتخابات التمهيدية للحزب في شهر نوفمبر (تشرين الثاني). ولذا فإن الشهور القليلة القادمة ستكون حاسمة بالنسبة لساركوزي، إذ سيتحتم عليه أن يحارب على عدة جبهات في وقت واحد، وأن «يفلت» من براثن القضاء لأنه لو وقع بقبضته فعليه عندها أن يودع طموحاته الرئاسية إلى الأبد. وكان ساركوزي يحلم بمنازلة فرنسوا هولاند مرة ثانية في عام 2017 ليثأر للهزيمة التي ألحقها الأخير به عام 2012. وطيلة سنوات هولاند الرئاسية لم يتوان ساركوزي لحظة في التنديد به وبسياساته «الخاطئة»، وبانعدام كفاءته لإدارة شؤون فرنسا. ولذا عليه اليوم أن يحارب رفاقه داخل الحزب، والرئيس هولاند ومارين لو بن خارجه، فضلا عن القضاء والرأي العام، ما يبين صعوبة المهمة. لكن «مقتله» يبقى ما سيلفظه القضاء في الأشهر القادمة إذا ما وصلت به الأمور إلى حد المثول في المحاكم.
مشاركة :