الحراك الجزائري من صخب الشارع إلى الصمت التكتيكي

  • 5/9/2023
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عندما خرج بعض الجزائريين احتفالا بإعلان الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة التنحي عن السلطة في مطلع شهر مايو – أيار 2019، إيذانا بتحقيق الاحتجاجات الشعبية للهدف الذي خرجت لأجله، كانت عبارة بسيطة وقصيرة من شاب جزائري كافية لتكشف عن عمق الحراك الشعبي ورسالته من أجل تغيير شامل في البلاد. ولما سألت مراسلة تلفزيون عربي بوسط العاصمة ذلك الشاب، رد بكل عفوية “يتنحاو قاع” (يرحلون جميعا)، وهو الموقف المفصلي في مسار انتفاضة الجزائريين، بين من كان يعتقد أن الحراك خرج للإطاحة ببوتفليقة، وبين من يعتقد أن الحراك خرج من أجل رحيل النظام برمّته. ومن هذا المفصل اخترعت السلطة خطابا صنّف الحراك إلى “الحراك الأصيل” و”الحراك الدخيل”، في محاولة للعزل بين من زعم أن الانتخابات التي أفرزت عبدالمجيد تبون رئيسا للدولة هي تتويج للحراك الشعبي، وبين من يُتهمون بخدمة أغراض وأجندات معادية للوطن. لكن يبقى الميدان هو المعيار الوحيد لدحض صحة أيّ من النظريتين أو إثباتها، فقد كانت السلطة تتيح كل شيء من إثبات شعبية طرحها لاحترام ما كانت تسميه بالمسار الدستوري، وكانت تفعل أيّ شيء لأجل التضييق على المطالبين برحيلها، لكن الأعداد كانت تخذلها في كل مرة وتؤيد خصومها، ولذلك لجأت إلى الوسائل الأمنية من أجل استعادة الميدان لصالح المؤسسات والمؤدين. ◙ السلطة استطاعت تجديد نفسها بقوة مؤسساتها، وحافظت على نفس تقاليدها في التعاطي مع الاهتمامات والانشغالات المستجدة، وكأنها تخشى التغيير ومنذ انتهاء السلطة من مسلسل تجديد المؤسسات بداية من رئاسة الجمهورية إلى غاية البلديات والمحافظات، مرورا بالبرلمان والدستور، تحاول بكل الوسائل إنهاء زخم الحراك من المخيال الشعبي، كوسيلة نضالية سلمية أطاحت بالكبار من المسؤولين وأدخلت أجنحتها في تجاذبات غير مسبوقة. الحراك الشعبي الجزائري فاجأ الجميع بمن فيهم السلطة والمؤسسات والأحزاب والنخب، فلما ساد الاعتقاد أن أنفاس الثورة الشعبية قد خفتت تماما، ولما تمادت السلطة في إهانة الجزائريين بقبول ولاية رئاسية خامسة لرئيس مشلول، خرج الجزائريون من الحدود إلى الحدود للتعبير عن رفضهم لواقع يراد أن يفرض عليهم فرضا. ولما تحدى الشباب الآلة الأمنية واخترق جدار الخوف، وجد الجميع نفسه في حالة حرج شديد بمن فيهم السلطة، وأراد الكل ركوب الموجة، خاصة تلك القوى السياسية والحزبية التي خافت من عقاب الشعب، فخرج الإسلاميون والمحافظون واليساريون ولوبيات المال والأعمال، لإظهار أنفسهم أمام الرأي العام بأنهم متخندقون في معسكر الإرادة الشعبية، وأنهم مستعدون للمرحلة الجديدة. لكن نضالات الحراك أفرزت تدريجيا النخب المقتنعة بإرادة التغيير السلمي والشامل، وبين تلك التي انخرطت تباعا في مسار السلطة، ابتداء من احترام المسار الدستوري إلى آخر محطة سياسية وانتخابية، ولذلك وصف بـ”الغربال”، الذي يسقط في كل مرة الشوائب التي تعْلق به، واللافت أن من دار في فلك الراحل بوتفليقة هو من يدور في فلك تبون الآن، ومن عارض بوتفليقة في السابق هو من يعارض تبون الآن. وإذ استطاعت السلطة استعادة المبادرة والسيطرة على الشارع بواسطة مختلف الآليات بما فيها الأمنية والاجتماعية وصناعة وعاء شعبي مُوال، مقابل تراجع زخم الاحتجاجات الأفقية، فإن بقاء نفس الأسباب التي فجرت انتفاضة فبراير 2019 يوحي بأن عصب الحراك سيبقى نابضا، عبر مختلف المظاهر والممارسات حتى ولم تعد مظاهرات ووقفات وإضرابات. شعار “يتنحاو قاع” (يرحلون كلهم)، حمل واختصر عقيدة الحراك الشعبي الجزائري، وعبّر عن تنامي طموح الجزائريين عبر أسابيع المسيرات المليونية، فسقوط مشروع الولاية الخامسة لبوتفليقة فتح شهية الشارع للذهاب بعيدا في رفع سقف المطالب السياسية، ولعل بقاء نفس الحنين الشعبي للحراك يعكس أخطاء السلطة في احتواء الموقف، فلو دعمت خارطة طريق ترضي الجميع لما استمر الاحتقان القائم والريبة المستشرية بين الطرفين. ◙ السلطة كانت تتيح كل شيء من إثبات شعبية طرحها لاحترام ما كانت تسميه بالمسار الدستوري، وكانت تفعل أيّ شيء لأجل التضييق على المطالبين برحيلها الحراك الجزائري أفضى إلى سجن ثلاث رؤساء حكومات ووزراء ورؤساء أحزاب ورجال أعمال ومسؤولين كبار والعشرات من الجنرالات والضباط السامين، لكن السلطة الوريثة لم تفهم الرسالة وبحثت بكل الوسائل من أجل الاستمرار ولو بالقبضة الحديدية، دون أن تعير للسلم المزيف عواقبه. مطّلعون على الشأن الجزائري يرون أن الحراك انتهى في تجلياته الطبيعية، لكن الفكرة باقية، فالنهج السلمي وتجاوز الخلافات الأيديولوجية والسياسية والإجماع على الإرادة الشعبية هي مخارج لم تتبلور في مختلف المحطات النضالية السابقة، الأمر الذي يقلق السلطة باستمرار ويجعلها في وضع مرتبك تجاه أيّ تحرك قاعدي. السلطة استطاعت تجديد نفسها بقوة مؤسساتها، وحافظت على نفس تقاليدها في التعاطي مع الاهتمامات والانشغالات المستجدة، وكأنها تخشى التغيير أو أنها تظهر غير قادرة على مواكبة التحولات، وفي المقابل حافظت تيارات الحراك على عقيدتها الراديكالية، الأمر الذي يساهم في توسيع الفجوة بين الطرفين، وفي تأجيل فرص التوافق على حل مرض للجميع. حتى وإن كان خطاب السلطة يسوّق لنصر على “الحراك الدخيل”، فإن إمكانياتها ومؤسساتها ووعاءها البشري يبقى بعيدا عن كسب شرعية شعبية، فرغم ما تملكه من آليات وأحزاب ومجتمع مدني، فإنها لم تقنع الجزائريين بمشاركة مقبولة في مختلف الاستحقاقات الانتخابية، وهو ما يوحي بأن المقاطعة الواسعة لصناديق الاقتراع هي واحدة من تجليات الحراك الشعبي المستتر. الحراك الجزائري بعد تجربة صخب الشارع يؤسس إلى صمت تكتيكي، وهو أصعب مرحلة بالنسبة إلى السلطة، ما دام الصوت يكشف صاحبه، أما الصمت فيمكن أن يباغت خصمه من حيث لا يدري.

مشاركة :