القول إن التكنولوجيا الذكية ستخلق فرص عمل أكثر مما ستسرق من وظائف أصبح مشكوكا به. هذا ما أثاره الباحث الأميركي بِن غورتزل الذي يعود إليه الفضل في تطوير الذكاء الاصطناعي العام، متحدثا عن فقدان 80 في المئة من الوظائف خلال السنوات المقبلة، وذلك في تصريح خلال قمة الويب في ريو دي جانيرو بالبرازيل. “الشركات الكبرى لا تهتم بالصالح العام وما تريده هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح”. كيف ستواجه الحكومات إذا فقدان الوظائف، وهل سننتظر حلول الكارثة قبل أن نتحرك؟ في عام 2017 طرح بيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت القضية، مركزا على الأبعاد الاجتماعية التي قد تنجم عن حلول الروبوتات والذكاء الاصطناعي عموما محل البشر في الوظائف. حينها، اقترح بيل غيتس ما بدا أنه مزحة أكثر من كونه حلا، حيث طالب الحكومات بفرض ضرائب دخل على الروبوتات أسوة بالعاملين البشر. سرعان ما نسي الناس “المزحة”، ليعودوا بعد خمس سنوات ويتذكروا ما قاله بيل غيتس مع ظهور روبوتات المحادثة وانتشارها بسرعة أذهلت الجميع، بمن فيهم المطورون. ◙ ماذا ستفعل الحكومات التي تعتمد في دخلها على الضرائب في حال زيادة الشركات لاستخدام روبوتات الذكاء الاصطناعي بدلا من البشر في الوظائف والأعمال في المصانع والمتاجر أكتب هذه السطور من غرفتي في فندق حللت به منذ يومين فقط بزيارة أقوم بها للندن، بعد انقطاع ثلاث سنوات تقريبا. 48 ساعة كانت كافية لأعرف سبب المخاوف التي كان غيتس سباقا في التحدث عنها؛ مدينة لندن التي طالما عرفت بطابعها المحافظ وتمسكها بالتقاليد، ونجحت في الحفاظ على طابعها المعماري الفيكتوري والإدواردي – دليل ذلك حفل تتويج تشارلز ملكا قبل بضعة أيام من زيارتي – يسيرها اليوم الذكاء الاصطناعي، بطريقة أو أخرى. ليس صعبا أن تلاحظ ذلك منذ اللحظة الأولى لوصولك المطار. فأنت مضطر للتعامل ليس مع البشر ولكن مع آلات وكاميرات مراقبة تدقق بوجهك وبياناتك، وبعد لحظات تطلب منك العبور من خلال بوابة تفتح آليا. لن تجد في محطة القطار النوافذ التي اعتدت أن تجدها بالعشرات قبل ثلاث أو أربع سنوات، يجلس خلفها عاملون تبتاع منهم تذكرة تقلك لوسط المدينة، حلت محلهم آلات لا خيار لك سوى أن تتعلم كيف تتعامل معها. ما يحدث في المطار ومحطة القطارات يحدث في كل مكان تقريبا؛ في المتاجر والمصارف والدوائر الحكومية.. التغيرات الحاصلة بالنسبة لشخص شارف على السبعينات مثلي قد تكون مقلقة ومربكة، ولكنها بالنسبة للشباب مخيفة ومرعبة. هناك ثورة تكنولوجية تنتزع منهم فرص العمل. لن يستغرق الأمر أكثر من ثلاث أو أربع سنوات ليحل الذكاء الاصطناعي بديلا في 80 في المئة من الوظائف. الأمر لم يعد مجرد “مزحة”.. هناك من يقول إن الثورة التكنولوجية التي ستسرق فرص العمل ستوفر هي أيضا فرص عمل أخرى، وأن البشر سيتفرغون لما هو أفضل. لماذا الخوف إذا؟ ◙ الشركات الكبرى لا تهتم بالصالح العام وما تريده هو تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح هذا كلام لا أعتقد أن شخصا عاقلا يمكن أن يخدع به، حتى المروجون له لا يصدقونه. فقط يحاولون تهدئة النفوس الغاضبة. في أفضل الحالات لن توفر التكنولوجيا ربع أو خمس ما سيفقد من فرص عمل بسببها. قبل يومين فقط عبّر كتّاب السيناريوهات في هوليوود عن مخاوفهم من أن تحل روبوتات المحادثة مكانهم في الكتابة وتحيلهم إلى البطالة. وهي مخاوف سبقهم إليها صحافيون وموسيقيون وفنانون تشكيليون ومحاسبون ومدراء وحتى المحامون والأطباء. لا أحد يعرف، بالضبط، حجم الزلزال الاجتماعي الذي سيتسبب به زحف الذكاء الاصطناعي وتسلله إلى كل تفاصيل حياتنا. هناك نبوءات، وهي ليست نبوءات عرافين أو منجمين بل نبوءات خبراء في هذا الحقل، يجب علينا كأفراد وحكومات عدم الاستهانة بها. لم يتحدث بيل غيتس بأسلوب الخيال العلمي، بل تحدث بأسلوب علمي ومن موقعه كمساهم ومؤثر في الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم. إذا كانت الروبوتات ستأخذ وظائف البشر، فإن عليها دفع ضرائب كما دفع من قبل الذين ستحتل مكانهم. ما قاله غيتس ليس مجرد نبوءة؛ احتلال الروبوتات وظائف البشر يعني أن عددا أقل من الناس سيعملون، وهذا يعني بالتالي أن عددا أقل سيدفعون الضرائب للدولة، وهذه مشكلة يعرفها أي اقتصادي مبتدئ، لأن الضرائب تمول أمورا مهمة مثل الرعاية الصحية والتعليم والطرقات.. وغيرها. لا يمكن ببساطة التخلي عن ضريبة الدخل، لأنها هي التي تمول هذا المستوى من الخدمات للبشر. “العامل الذي ينتج ما قيمته نحو خمسين ألف دولار من العمل في مصنع يدفع ضريبة عن هذا الدخل، وإذا جاء روبوت ليؤدي الوظيفة ذاتها فيجب عليه أيضا دفع ضريبة مماثلة”. حديث غيتس تزامن مع تقرير لشركة ماكينزي للاستشارات، حينها قالت الشركة إن 50 في المئة من الوظائف التي يقوم بها البشر معرضة للاستبدال بالروبوتات، وهذا يمكن أن يترجم بلغة الأرقام إلى خسارة بنحو 15 تريليون دولار في الأجور على مستوى العالم، ونحو 2.7 تريليون دولار في الولايات المتحدة وحدها. ◙ هناك ثورة تكنولوجية تنتزع منهم فرص العمل. لن يستغرق الأمر أكثر من ثلاث أو أربع سنوات ليحل الذكاء الاصطناعي بديلا في 80 في المئة من الوظائف كل هذه النبوءات كانت قبل تطوير النظام الذي أشعل حرب منافسة بين عمالقة شركات التكنولوجيا الرقمية، ونقصد به تشات جي.بي.تي. والسؤال، ماذا ستفعل الحكومات التي تعتمد في دخلها على الضرائب في حال زيادة الشركات لاستخدام روبوتات الذكاء الاصطناعي بدلا من البشر في الوظائف والأعمال في المصانع والمتاجر، بل وفي المدارس والمصحات وقاعات المحاكم.. ليس هناك من وظيفة يمكن الادعاء أنها بأمان من تسلل الروبوتات إليها، بما في ذلك صناعة الروبوتات والأنظمة الذكية نفسها. حتى هذه اللحظة لا توجد أي ملامح لخطة جدية قد تتبعها الحكومات في الدول الأوروبية وفي الولايات المتحدة، فما بالك في العالم الثالث، والرابع، والخامس.. نعود للباحث الأميركي بِن غورتزل الذي يؤكد أن “المشكلة ستتمثل في المرحلة الانتقالية، عندما يبدأ الذكاء الاصطناعي في جعل الزمن يتجاوز الوظائف تباعا”. ويمضي غورتزل ليقول “لا أعرف كيف سنحل المشاكل الاجتماعية الناتجة عن ذلك”. ولكن مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس وآخرين يعرفون الجواب، وهو فرض ضرائب الدخل على العمل الذي تنجزه الروبوتات لتعويض الخسائر.. وهذه ليست مزحة.. فمن ساواك بنفسه ما ظلم.
مشاركة :