المعارضة التونسية دوران في حلقة مفرغة

  • 5/11/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ينحصر دور المعارضة التونسية حاليا في عقد مؤتمرات صحفية للإعلان عن أخبار التوقيفات وإصدار البيانات التي تحصي عدد الموقوفين، وتوجيه الاتهام للسلطة السياسية بالتدخل في شأن القضاء وتوجيهه، وسرد قائمة التجاوزات والخروقات الإجرائية في عمليات التوقيف والإحالة وتحديد جلسات المحاكمة. أي إن دور المعارضة بات شبيها بدور المحامي وليس الحزب السياسي، أو الجبهة السياسية التي تضم مجموعات مختلفة المشارب مثل حالة جبهة الخلاص حاليا. عادت المعارضة إلى المربع الأول، مربع عهدي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، أي مجرد مجموعات صغيرة تكتفي بتتبع الأخبار وإصدار البيانات، وخاصة الجلوس على الربوة وتسجيل النقاط على السلطة السياسية، والعيش على الإشاعات وتسريبها للأنصار حتى يمكن ضبطهم. البعض يرى أن المعارضة لم تختر هذا المسار الدائري، وأنها كانت تريد المشاركة وأن تتحول إلى قوة اقتراح، لكن النظام كان دائما يرفض اليد الممدودة، ويضرب مثلا على ذلك التوقيع على مسودة الحوار الوطني في 1988 كأرضية سياسية واجتماعية وقانونية مشتركة مع نظام بن علي، قبل أن تذهب تلك الوثيقة مع الريح مع بدء المواجهة السياسية والأمنية بين الإسلاميين والسلطة، وهي المواجهة التي فتحت الباب أمام خطاب الإقصاء والمحو والنفي والتكفير بين الطرفين. ◙ المعارضة، في واجهة جبهة الخلاص أو اللقاء الخماسي (وسط اليسار)، تجد نفسها الآن في الموقع المريح الذي يلائمها تاريخيا بالرغم من زيادة قائمة الاعتقالات والمحاكمات لقد مُنحت للمعارضة التونسية، بما فيها الإسلاميون، فرص كثيرة لتفتح الباب أمام المساهمة في البناء والاقتراب من آليات اشتغال الدولة. البعض تعفف عن تلك المساهمة لأنها لا تليق به، فالمعارضة في الأدبيات التونسية هي أن تأخذ الكل أو لا، بمعنى لا يمكن أن تدخل السلطة – الدولة بحجم صغير ليكبر بعد ذلك الجسم المعارض شيئا فشيئا ويمتلك الخبرات ويفهم آليات تصريف العمل الحكومي من مستوياته الدنيا، حتى إذا توفرت الفرصة يوما وجد الحزب نفسه جاهزا للمشاركة في تحالف حكومي ولو بوزير واحد أو بوزير شؤون (كاتب دولة). البعض الآخر فهم الدعوة إلى المشاركة وعروض الحوار والبحث عن المشترك على أنها فرصة لاقتناصها من أجل الهيمنة على الدولة. حصل هذا مع الإسلاميين بعد تهدئة مؤقتة مع نظام بن علي بين مايو 1988 (إطلاق سراح راشد الغنوشي) وانتخابات أبريل 1989، مرورا بالميثاق الوطني، حيث فهم الإسلاميون (النهضة التي كانت قد اكتسبت اسمها للتو وتخلت عن ثوب حركة الاتجاه الإسلامي) أن المناخ مهيأ لدخول الانتخابات بقوة تحت يافطة المستقلين وتحقيق هيمنة على البرلمان. وقلبت نزعة الاستحواذ والهيمنة صفحة التهدئة المؤقتة مع نظام بن علي الذي كان قد استعان بنخب من اليسار البراغماتي وضعت لنفسها شعار قطع الطريق أمام الإخوان، وهي خطوة أولى مرحليا من النضال ضد الرأسمالية المحلية. وتحول المؤقت اليساري إلى حالة دائمة تقوم على التمدد في الدولة والحفاظ على ليبراليتها ونظام الحزب الواحد في مواجهة ديمقراطية طائشة تضع الإسلاميين في السلطة. حدث هذا أيضا بعد الثورة، حيث تنادى اليسار البراغماتي المتحرر من الحزبية للدخول في جبهة “نداء تونس” التي شكلها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي (2013) لمواجهة سيطرة الإسلاميين على الثورة الناشئة. ثم لاحقا تمترس اليسار والقوميون الناصريون في “حزام” الرئيس قيس سعيد، الذي تم انتخابه في أكتوبر 2019، على أمل أن يكون “حزب الرئيس” وعينه التي يرى بها قبل أن يكتشفوا أن الرجل، الذي لم يكن مسنودا بحزب، كان أمة برأسه فوظفهم قبل أن يوظفوه، وألزمهم أن يظلوا “حزاما” صوريا يكتفي بالإشادة والتصفيق وتحيّن الفرص لملء الفراغات التي تسمح بها معركة شيطنة خصومهم الإسلاميين. الآن يتكرر المشهد نفسه الذي حصل ما بعد انتخابات 1989 حين وقفت الدولة العميقة على خطر إستراتيجية اختراق الدولة لدى الإسلاميين من بوابة أنصاف الفرص، خاصة أنه لم يمر سوى وقت قليل على تفكيك “المجموعة الأمنية” التي تبرأت منها حركة النهضة، وإن كانت قد ضمت أسماء بارزة على صلة بها مثل وزير التعليم العالي بعد ثورة 2011 المنصف بن سالم. وما فشل في تحقيقه الإسلاميون عبر الانتخابات سعوا لتحقيقه عبر العصيان المدني، الذي قرروه في قلب المواجهة الحامية مع نظام بن علي. وكان من المنطقي أن تنجح الدولة التي تمتلك عنفا منظما في أن تهزم عنفا ساذجا مغامرا لجأ إليه الإسلاميون وزجوا فيه بالآلاف من أنصارهم من تلاميذ وطلبة وموظفين شباب. والسبب أن قيادتهم رفضت مشاركة في السلطة تحصل فيها على مقادير صغيرة تسمح للحركة – الجماعة بأن تتخفف من ثقافة كليانية مشرقية، ارتبطت بتماس بعض قيادتها مع إخوان الشرق، وتؤوب إلى أرضية محلية إصلاحية مرتبطة بجامع الزيتونة والمذهب المالكي. اختارت الحركة – الجماعة الخيار الصعب، أي أن تكون أقرب إلى هوية إخوانية مشرقية تريد التمكين للجماعة على الشراكة المحدودة التي كان يمكن أن تؤسس لديمقراطية متصالحة مع الواقع وذات نفع إستراتيجي، حتى لو بدت في وقتها خادمة لنظام بن علي وعرضة لمزايدات اليسار الذي كان يصف الإسلاميين بأنهم صنيعة “حزب الدستور”، أي الحزب الحاكم في وقت بورقيبة. ◙ المعارضة في الأدبيات التونسية هي أن تأخذ الكل أو لا، بمعنى لا يمكن أن تدخل السلطة – الدولة بحجم صغير ليكبر بعد ذلك الجسم المعارض شيئا فشيئا ويفهم آليات تصريف العمل الحكومي من مستوياته الدنيا لقد تبادل الإسلاميون واليسار الأدوار في حركة منافية لمنطق التاريخ. اليسار الثوري تحول إلى تيار براغماتي متصالح مع الليبرالية، فيما خسر التيار الإصلاحي الزيتوني هويته لصالح نزعة متشددة قادمة من الشرق، حولته إلى تيار “ثوري” في صدام مع الدولة التي هزمته بالضربة القاضية بين 1986 و1987، ولاحقا بعد مواجهة 1990 و1991، وهي في طريقها لهزيمته في معركة جديدة قد تكون أكثر قسوة كما تشير إلى ذلك مقدمات صراع حركة النهضة مع حكومة قيس سعيد. يبدو أن المعارضة التونسية قد استمرأت المواجهة مع الدولة، ولا تجد نفسها خارج هذا الوضع الذي يمنحها صفة الضحية الباحثة عن تعاطف الخارج ويسهل عليها موقع المتفرج المرتاح من الأعباء الذي لا يجد عملا أسهل من صياغة البيانات المريحة بسقف عال من الثورية. وربما لهذا السبب فشلت المعارضة الواسعة لنظام بن علي في أن تستفيد من فرصة ثورة 2011 التي كانت بالنسبة إليها في شكل “مائدة من السماء” لم تبذل جهدا في الحصول عليها. وجد معارضو بن علي الدولة أمامهم ليحكموها، فارتبكوا. وبدلا من تنزيل أفكارهم الجاهزة المحفوظة في الكتب المرجعية لكل تيار، مالوا إلى إدامة الأزمة السياسية وما تخللها من صراعات ومزايدات وصراخ وتدافع إعلامي وسياسي وعراك بالأيدي للهروب من حقيقة العجز عن الحكم. إن المعارضة، في واجهة جبهة الخلاص أو اللقاء الخماسي (وسط اليسار)، تجد نفسها الآن في الموقع المريح الذي يلائمها تاريخيا بالرغم من زيادة قائمة الاعتقالات والمحاكمات، فليس أفضل لديها من إحصاء الخسائر ومطاردة الأحداث والمواقف والبحث عن حائط مبكى جديد في مواجهة سلطة حازمة. دوران جديد في حلقة مفرغة لمعارضة لا تتقن سوى لعب دور الضحية وتهرب من فرص البناء والإصلاح.

مشاركة :