في عالم تحكمه المياه، وبين حفر الأفلاج في القرى العمانية، وولادة أسطورية من رحم أم غارقة، يقص الكاتب العماني زهران القاسمي أحداث روايته «تغريبة القافر»، المرشحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية للعام 2023. حضور طاغ أجاد الكاتب استخدام الصور التعبيرية والجمالية لكونه شاعرا في الأساس، ونجح في صياغة الجمل بأسلوب شعري ساحر في جميع أعماله الأدبية سواء كانت شعراً أو نثراً. إلى ذلك، يقول القاسمي لـ«الاتحاد» إنه استمتع بكتابة «تغريبة القافر» لأنه اعتمد على الشعر في السرد وكتابة بعض المقاطع كأنها قصائد منفصلة داخل الرواية، فالشعر بالنسبة للكاتب أساس الأعمال ولا بد من أن يكون له حضور طاغ في العمل الأدبي. ويضيف: «عملت على الدمج بين الشعر والسرد حتى يتحرر الشعر من قيوده وينصهر في قالب واحد مع النص الأدبي، وحاولت أن أستغل المهارات اللغوية في تصوير المشاهد وتطويعها لخدمة تكوين الشخصيات وكتابة الخطوط الدرامية لكل منها، وكذلك في صياغة الأحداث وتصاعدها أثناء السير في حبكة الرواية». مكانة عظيمة ويوضح القاسمي أنه لم يعتمد على مهاراته الوصفية فقط وإنما عمل جاهدا في مرحلة ما قبل الكتابة حيث اطلع على العديد من كتب علم النفس، كما قرأ عن طرق شق الأفلاج وحفرها في القرى العمانية، وهو ما استغرق منه عامين كاملين من بداية الكتابة عام 2018 وحتى ظهرت الرواية في العام 2020. ولادة القاسمي لأسرة تعيش على ضفاف أحد الوديان بسلطنة عمان وشربه من المياه العذبة في الأفلاج ومشاركته في تنظيفها رسخت علاقته بالماء، فكان له قدسية خاصة ومكانة عظيمة في قلبه، ولكن في الرواية جمع بين متناقضين فكما تكون المياه سببًا في الحياة قد تكون أيضاً سبباً للموت. ولد بطل الرواية بعد غرق أمه في أحد الآبار، وبطريقة تشبه المعجزة خرج من بطنها فعاش حياته يقتفي أثر المياه ويشق الأفلاج في القرى البعيدة في الصحراء حتى تعود إليها مظاهر الحياة، وعلى الرغم من أن المياه سبب هلاك والدته، إلا أنها تتحول إلى مصدر حياة مع القافر الذي يسير في أي مكان فتسمع أذناه خرير المياه ويدل الناس على الأماكن التي سيجدون فيها المياه في باطن الأرض. ظهور مؤثر يحرص القاسمي على ظهور الماء بشكل مؤثر في أكثر من موضع في الرواية، وكما بدأت «تغريبة القافر» من المياه تنتهي فيها، وتنال القدسية التي طالما عايشتها في الأزمنة القديمة ولا سيما في المناطق الصحراوية التي يعرف أهلها قيمة الماء جيدا ويصيغون حوله الكثير من الأساطير الشعبية. من جهته، يقول الناقد حسام الخولي لـ«الاتحاد»: بنظرة بسيطة على عالم القاسمي كاتب الرواية تدرك شيئين، أولهما شاعرية السرد التي يملكها في رواياته التي تعيدك إلى تلك الأشعار. وثانيهما أن أعماله في مجملها تتخذ من الشح المكاني، كما يوجد في القرى والجبال، عالماً موازياً مكانها المؤسس، بدلاً من المدينة التي تتناولها الروايات كثيراً. ويضيف أن القاسمي صنع عوالم واقعية سحرية عربية، يمكن التوحد معها عالمياً، يحكي حكايته الحالمة من خلالها، موضحاً «في «تغريبة القافر» نسير معه في عالم يبحث كل رجاله ونسائه عن الماء والعيش الرغد، وتضييق مساحات الحاجة والتنعم لنفهم أكثر الإنسان في أبسط وأرق صوره المتوحدة مع طبيعة قاسية كالصحراء ومعطاءه كالماء». ويتابع: «يضيّق القاسمي عالم روايته في محدودية ظاهرة وباطنة، ويقتصر عالمه على شخصيات بعينها يتحرك من خلالها، يحكي على ألسنتها ما يريده، عالم ضيق وممتد، يولد بطله في قلب حكاية لا بد من أن تموت فيها أمه، يفهم منذ اللحظة الأولى اتصال الحياة بالموت في كل حدث، وينجح في ذلك لدرجة مذهلة، قليلاً ما يتمكّن منها كاتب عربي». ويوضح الخولي: «ثمة نقطة أكثر ذكاء في لغة القاسمي هي تجاوز محدودية مساحة حكي هذا العالم لغوياً كالمكان الذي يحكي عنه، بإعادة تشكيل اللغة وتوظيف صفات المكان لوصف الأبطال بنجاح».
مشاركة :