ميرال الطحاوي تستدعي مستعمرة المُهمشين في «أيام الشمس المشرقة»

  • 5/14/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

يحرص المهاجرون على التقاط صور في بلدهم الجديد متباهين بجنة الخارج التي ارتحلوا إليها، لكن في أرض «الشمس المشرقة» يتلاعبون في المونتاج ويلجأون للحيل الفنية لكي يصنعوا الصور المطلوبة. ما يظهر في الصورة مكان يشبه حقل الأزهار الذي تحتضنه الجبال، أما مكان التقاط الصورة على الحقيقة فهو مقبرة بائسة. في رواية « أيام الشمس المشرقة » المنشورة عن دار العين للنشر عام 2022، والمرشحة لجائزة البوكر العربية هذا العام لكاتبتها المصرية ميرال الطحاوي ، يجد القارئ بناءً قويًا مُحكمًا للمكان والشخوص بديع الوصف والتشبيهات وبارع التفاصيل. أجادت الكاتبة في رسم مسرح الأحداث، وهو أكثر من مكان متقارب متصل، وكذلك في رسم أبطاله والشخوص الذين يستمر دخولهم حتى آخر نفس روائي وهم وسط مختلف من المهاجرين.  المعتاد في أدب المنفى والهجرة والاغتراب أن نقرأ فيه عن رحلات الإنسان المكافح الذي ينجح رغم الصعاب في البلد الذي هاجر إليه، أو حتى يفشل بعد تحقق بسبب ما واجهه من تحديات ترتبط بهويته بشكل ما. ربما هذه هي المرة الأولى التي نقرأ في الأدب العربي عن وسط جديد من المهاجرين هو وسط المهمشين في أوطانهم المُهمشين في الخارج أيضًا، من سعوا وتطلعوا لغد أفضل وبذلوا من أجله فلم يبرحوا مكانهم وإن ارتحلوا. عبر ستة عشر فصلًا و280 صفحة نقرأ عن هذا المجتمع الذي يعيش منعزلًا عن مجتمعه منكفئا على محيطه حتى أن بعضهم يتخذ الابتسامة لغة حوار، لأنه لا يعرف لغة البلاد التي هاجر إليها ولا يهتم بتعلمها، وربما أيضًا تجده يرتدي ملابس تحمل بعض الشتائم وهو لا يدري معناها.  نقترب من حياة العمل والتسكع للخدم وعمال اليومية وحراس العقارات والمقاولين الصغار وعمال المناجم والمزارع والقائمين على تغسيل الموتى وقص الحشائش وسُراق الشاحنات والعاملين في الدعارة، الذين هجروا أوطانهم البائسة فأبت حياة القاع أن تدعهم إلى رغد العيش. هؤلاء هم شعب الشمس المشرقة. في حياة القاع في أرض الأحلام يختفي الناس و«لا يكترث أحد لغياب أحد في النهاية، يتساءل البعض أحيانًا لكنهم يدركون أن الغياب سُنة من سنن تلك الحياة التي يعيشونها». هناك أيضا «معظم المهاجرين يموتون فجأة، وغالبًا لا يجدون لهم أُسرًا تتكفل بمصروفات الدفن أو الجنازات». مُستنقع بشري تبدأ الرواية بمشهد ختامي مأساوي عام لأهالي «الشمس المشرقة»، وآخر خاص للبطلة نِعَم الخباز، ثم يمضي الراوي في سرد رجعي (فلاش باك) بطيء الإيقاع وتدفق أفقي يفسر كيف وصلنا للمشهدين المتقدمين. في الفصول الأولى تقديم للشخصيات وتعريف بها وحكاياتها وبيئاتها بحثًا عن إجابة سؤال يراود كل منها: «من الذي يستطيع أن يكسر دائرة البؤس؟ من يستطيع الصعود؟».  «نِعَم» هي محور شخوص الرواية، التي تطوف بحياة بطلتها ودائرة معارفها من أهل وجيران وصديقات ورجال ثم ابنيها اللذين تفقدهما مع الوقت في نهايات مختلفة. هي أيضًا أبرز من نشهد تفاصيل صعوده في الصفحات حتى تفتح عملها الخاص في التنظيف العميق.  نساء «الشمس المشرقة» خبيرات في فنون الفُحش اللغوي بالنظر إلى بيئاتهن، لا ينفد قاموس شتائمهن، ويفتقدن الطابع الأنثوي الناعم الذي أهدره الزمن وسكبته رائحة الشقاء اليومي بلا رجعة ربما انجرفت الكاتبة إلى بعض القصص الزائدة في منتصف نسيجها الروائي، بما يجعلها تبدو وكأنها مُقحمة على النص، مثل قصة نجوى وخلفيتها الأكاديمية واحتكاكها بعالم الفساد الجامعي في مصر، لكنها في الصورة الأعم تظهر كإضاءة على أسباب مجيء مهاجر آخر من خلفية اجتماعية أعلى من البطلة الرئيسية. نتتبع نِعَم في سنواتها الأولى منذ نشأتها بقرية في دلتا مصر في بيت يُعدد فيه الأب زوجاته، ولا يهمه من أمر بناته إلا مهورهن، حتى أنه لا يكترث للتعرف على أحفاده، وتنحصر حياته في المخبز وباحة إحدى الطرق الصوفية حيث يسود الدخان المُغيّب للعقل. تصل نِعَم إلى أرض الشمس المشرقة، وتحصل على إقامة شرعية دائمة بعد استقدامها للعمل في دار للعجزة. حدث هذا حين كان العبور أسهل ومكاتب الهجرة أكثر تعاطفًا. كل صباح تخرج حافلات النظافة وتعمير الحدائق من مستعمرة الشمس المشرقة التي يغطيها غبار تلال الجنة الأبدية وتكسوها رائحة الموت والبارود والنفايات المكدسة، والماء الراكد المليء بكلاب البحر النافقة. تنطلق الحافلات بعاملات النظافة والتدبير المنزلي من الأفريقيات والمكسيكيات والمُربيات الآسيويات إلى «الجنة الأبدية» في مهام التجميل تاركة وراءها «المستنقع البشري» الذي هو «مزبلة مليئة بجثث الأحياء» تبدو فيه الخمور والمخدرات جزءًا لا يتجزأ من الصورة.  نساء «الشمس المشرقة» خبيرات في فنون الفُحش اللغوي بالنظر إلى بيئاتهن، لا ينفد قاموس شتائمهن، ويفتقدن الطابع الأنثوي الناعم الذي أهدره الزمن وسكبته رائحة الشقاء اليومي بلا رجعة، حتى تربية نِعَم لابنيها شابها الكثير من الصراخ والسباب والركلات المتبادلة. نقرأ: «الغضب أيضًا جزء أصيل في هذا الجوار، وكثيرًا ما يندلع الغضب في البيوت القريبة ويتدخل البوليس أحيانًا ويتدخل الآخرون نادرًا ثم يحل الصمت؛ لذلك لا يكترث أحد للصراخ في البيوت المجاورة». رموز ودلالات للنص جماليات عدة تتجلى في غلافه، الذي يعكس حيرة بطلته وقد أدماها قلبها بعد أن أخفقت في معادلة حسابات العاطفة. تتجلى أيضًا في أسماء شخوصه وفضائه السردي وأسماء بعض الجمادات.  تعد الرواية رواية مكان ورواية شخوص على حد سواء، حتى أن أسماء الفصول مُقسمة بينهما تقريبًا. للمكان تحديدًا في رواية الطحاوي إسقاطات عدة خلطتها الكاتبة في نسيج لوحتها الأدبية، بعضها قاطِع المعنى وبعضها تأويلي الدلالة. «الشمس المشرقة» مثلًا هو الاسم الذي تُعرف به ولاية فلوريدا الأمريكية، لكنها تقع في الساحل الشرقي للولايات المتحدة بينما الرواية تدور في الساحل الغربي، وإن اشترك الجانبان في التعرض للحرائق الموسمية المذكورة في أحداث النص. لكن على الأغلب فإن مدينة سان دييغو هي المقصودة، بخاصة وأن هناك أغنية باسم المدينة تتحدث عن شمسها المشرقة، وهي تقع جنوبي ولاية كاليفورنيا على الساحل الغربي كما ذكرت الرواية، وقريبة من جبال لاجونا التي تفصل عالم المُنعمين عن عالم المهمشين، كما اعتبرتها الكاتبة في روايتها. أيًّا كانت الولاية فالأحداث تجري في الولايات المتحدة، وهو ما يذكره الراوي العليم في الصفحات الأخيرة في النص صراحة، عند الحديث عن قارب المتسللين، وقبل ذلك عند ذكر ولاية أريزونا ومدينة آشفيلد التي تقع في ولاية ماساتشوستس شمال أمريكا باسميهما. نقرأ أيضًا عن الأعاصير المسماة بأسماء نساء كـ«رياح سانتا آنا الموسمية» التي تضرب الشمس المشرقة في نهاية الرواية. تُحيل رمزية «الجنة الأبدية» أعلى الجبال - شمالًا - إلى الحياة المترفة التي يطمع الناس في الهجرة إليها، وكأنها تخلو من المشكلات. في الجنة الأبدية إشارة للقوة العظمى في العالم أو أي دولة متقدمة يرغب الناس فيها، لكن مصيرهم في الغالب ينتهي إلى هامش عالمها، وهو ما تمثله «الشمس المشرقة»، إن تمكنوا من المرور. في العالم الهامشي للدول البرّاقة يصير إطلاق النار «جزءًا من الحياة في تلك الأرض، جزءًا من تقاليد التعبير عن الغضب والسأم، ذلك الغضب الذي يتفجر فجأة، ويسفر عن ذاته في شكل فاجعة لا يمكن محوها بسهولة». أسفل جبال الجنة الأبدية «يسقط البشر برصاص طائش طوال الوقت.. يحدث ذلك داخل البيوت الخشبية الفقيرة؛ وبالتالي يُرجح أن يكون انتحارًا أو مشاجرة عائلية». مكانٌ آخر يُسمى «سُرّة الأرض» في إسقاط على السودان، الذي يوصف بأنه «سلة غذاء العالم» كما سُرّة الإنسان المسؤولة عن تغذية الجسم. هذا المكان ثروته الوحيدة في زرعه لذا هو محط أنظار العالم، وهو ما تُمثّله السودانية المسيحية الحسناء «ميمي دونج» التي لا تجد سبيلًا للعيش والتكسب إلا عن طريق بيع بويضاتها. على نطاق أوسع، إفريقيا بوجه عام، وباعتبارها «القارة الأم»، مصدر غذاء العالم، كما الأم مصدر غذاء طفلها. نقرأ أيضا عن مكان رابع هو «تلّة سَنَام الجمل» التي ربما ترمز إلى مصر عبر شخصية «نجوى»، وذلك باعتبار أن مصر تقبع على قمة قارة إفريقيا حيث الجِمال سفن الصحراء، ولأنها فوق سُرّة الأرض أو السودان حيث أسواق الجِمال الكبرى، وأيضا لأن بها «جيش الخلاص» الذي يصطف المواطنون للحصول على خيراته، ولأنها تتوسط العالمين دون أن تنتمي لأيهما؛ عالم الشمس المشرقة جنوبًا وعالم الجنة الأبدية في أقصى الشمال. مكان خامس هو «الكوارتر» والذي تشتهر به العاصمة الأمريكية واشنطن دي.سي المُقسمة إلى أربعة مربعات، يتفاوت بينهم السكان بحسب المربع المقيمين فيه، وبعضه ذو بيئة خطرة، وإن وُجد «كوارتر» آخر في مدينة سان دييغو. أما الأسماء فبرعت الكاتبة في تسمية بطلاتها ابين «نِعَم الخباز» و«السيدة ذات الأوجاع» و«أمر الله» و«ميمي دونج» وكأنها تكتب لهن الخلود. هناك أيضا مقبرة «حديقة الأرواح» وقارب «عين الحياة» وكأن الحياة، من وجهة نظر شعب الشمس المشرقة، قاصرة على العيش فيما يروه «الجنة الأبدية» وما سواها حياة دون الحياة. عقد كامل تقريبًا هو الفارق الزمني بين روايتي ميرال الطحاوي الأخيرتين. عادت لتستأنف من حيث وقفت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية التي ترشحت لها روايتها «بروكلين هايتس» أيضًا في عام 2011. الجانب المُظلم لا يمكن إغفال إدانة النص للتباين الواقع داخل الدول المتقدمة والذي لا نراه فقط في الولايات المتحدة بل في هونج كونج وغيرها من الدول وبعض المدن أيضًا التي تتفاوت فيها مستويات المعيشة بين ثراء فاحش وفقر مدقع . وبينما يوجد من يسكن القصور الفارهة في إحدى هذه المدن، هناك من يسكن في معلبات حديدية مكدسة وقذرة في بنايات شاهقة، ليس له إلا الأسلاك ذات الأقفال يغلق بها على أمتعته التي تغطي فراشه المُستباح للناظرين في الجوار. يأتي النص كمدعاة للنظر في الواقع وتصحيح رؤيتنا المزيفة تجاهه في كثير من الأحيان، فالجنة الأبدية ليس بها إلا عربية واحدة نجحت في الوصول إلى هناك، بما يثير تساؤلات عن حقيقة الفرص المتساوية التي تدعيها تلك البلاد، وعن العنصرية في اختياراتها لمن يتم تصعيده. نقرأ أيضًا لابن إحدى المدن الأمريكية يقول لنجوى أن هنا أيضًا «مدينة موبوءة وأكثر خرابا من بلادك» وأن «ليس في تلك البلاد حظوظ كثيرة، لو كان فيها لأعطته لأبنائها بدلًا من تبديد الأموال على الغرباء».  عقد كامل تقريبًا هو الفارق الزمني بين روايتي ميرال الطحاوي الأخيرتين. بعد ما يزيد عن عشر سنوات بقليل، عادت الكاتبة وهي أستاذة الأدب العربي في جامعة أريزونا الأمريكية بعد غياب عن عالم الكتابة لتستأنف من حيث وقفت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية التي ترشحت لها روايتها « بروكلين هايتس » أيضًا في عام 2011، وتضيف لبنة جديدة إلى مسيرتها الأدبية تقدم فيها سردية مختلفة عن أبناء المهجر.

مشاركة :