جاءت الأزمة السودانيّة لتكشف جانباً جديداً من حال العالم سياسيّاً وأمنيّاً حين تقاطعت المصالح العالميّة في أنبوبة اختبار جديدة مركزها الخرطوم. وفي الوقت نفسه ما برح العالم يعيش تفاعلات الأزمة الأوكرانيّة التي ضربت أوروبا في صميم قلبها بعد استقرار طويل "للحديقة" الأوروبيّة بانشغالها مع شريكها الأميركي بتقاسم المصالح وتوزيع الأدوار في "أدغال" عموم آسيا وأفريقيا. ولكنّ عالم اليوم يتغيّر في آسيا وأفريقيا والتحالفات الجديدة تتشكّل بهدوء، والغرب يدرك أن العالم بات على مفترق طرق. وحين دعا ماكرون فرنسا وأوروبا إلى التحلّي بالتواضع أمام أفريقيا، فقد قال هذا الكلام مضطراً بعد تصاعد النفور الأفريقي من فرنسا. كان مرغماً على هذه اللغة الهادئة وهو يستعدّ العام الماضي (2022) لزيارة عدّة دول أفريقيّة بعد أن خسرت الشركات الفرنسيّة نصف حصتها في أفريقيا لصالح الصين والهند وروسيا ودول أخرى. وكرّر ماكرون عبارات مشابهة وهو يزور أفريقيا في مارس هذا العام (2023) من قبيل "بناء شراكة متوازنة" ولكنّه سمع كلاماً قاسياً من زعماء ونشطاء أفريقيين. أمّا في واشنطن فالانقسام الداخلي والوضع الاقتصادي ومستقبل الدولار أكبر حجماً مما يظهر إعلاميّاً، وكذا التقهقر في السياسة الخارجيّة قد لا تنقذه تحالفات ومبادرات تكتيكيّة مع دولة أو مجموعة دول في أفريقيا وآسيا. أمّا حلف "الناتو" الذي أعادت له أزمة أوكرانيا الحياة فيثور الجدل في أروقته حول تقاسم تكاليف تسليح أوكرانيا مع سؤال أوروبي ضخم هل هذه حربنا؟ ويبدو السؤال أكبر في الأوساط الشعبيّة الأوروبيّة مع تراجع الاقتصاد، وارتفاع نسب التضخّم ومعه أسعار السلع والطاقة. وفوق هذا كلّة جاءت أزمة أوكرانيا لترفع ميزانيات التسلّح بعد استرخاء القارة العجوز لعقود طويلة. حتى إن ألمانيا التي ظلّت تنفق على (زعامة) الاتحاد الأوروبي وبعض أعضائه المتعثرين اقتصادياً وجدت أنّ عليها أن تغيّر الوجهة مع إعلان المستشار الألماني أن بلاده سوف تمتلك أكبر جيش أوروبي تقليدي في الناتو. وبالفعل تم تخصيص 2 % من الناتج المحلي الألماني للموازنة الدفاعيّة (الناتج المحلي الألماني 2022 حوالي 4 تريليونات دولار). وحتى اليابان الحليف الأقرب للناتو والمقيّد عسكريّاً منذ الحرب الغربيّة (العالميّة) الثانية أعلنت موازنة سنويّة بقيمة 6,8 تريليونات ين (51 مليار دولار) لوزارة الدفاع وهي الميزانيّة الأكبر على الإطلاق مع خطة للوصول بميزانيّة الدفاع إلى 2 % من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027. أماّ في الصين فقد ارتفع الإنفاق العسكري للصين بنسبة 25 في المئة خلال خمس سنوات، وبريطانيا أعلنت تصاعد زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2.5 بالمئة من الناتج المحلي بحلول عام 2030. وحيث وصل سباق التسلّح العالمي عام 2022 إلى أعلى مستوى له على الإطلاق (2.24 تريليون دولار) بما يعادل 2.2 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي، يأتي السؤال لماذا ولمن تُحشد هذه الأسلحة؟ قال ومضى: بلا سؤال أو عجب.. إنّها النار وأول زادها ذاك الذي جلب الحطب.
مشاركة :