جوزيف مختار من متاهة البياض إلى متاهة الغياب

  • 5/15/2023
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

"العالم ليس لي وحدي، إنه لي ولكل من يسكن هذه الأرض" مقولة قالها التشكيلي السوري جوزيف مختار (1930) وتلخصها كل أعماله، مقولة فيها من الإيحاء ما يجعلها ترسانة قبول للإحالات والأطياف، ترسانة قبول المختلف وكل تلك الأنساق المحولة منها والثابتة، والتي يمكن تحديدها بالرغبة المتعلقة بحالة سكونها في لحظة مخاضها من المعنى واللامعنى. جوزيف مختار ينتشي تماماً من الحقول التي مرً بها، وحملها معه بكل أبعادها وألوانها ورائحتها، فمن حلب حيث ولد حمل إيقاع قدودها كحصيلة ممكنة من مفاهيمها وما يحدد الفعل المنتج كسيرورة مركبة تنتج دلالاتها بالطريقة نفسها وهي تنسج لحظاتها على نحو إبلاغي، إلى الحسكة التي صاغها ووجوهها بحواس مكتفية بذاتها مما جعله يتخذ من إيقاعاتها المختلفة، بملامحها وعلاماتها المتباينة والمروية بتراب وماء، ولها طعم مختلف ومغاير، إلى كندا حيث يقيم والتي فيها رضع الغياب والغربة والتي كادت تحوله إلى شيء خارج المفاهيم، بين هذه الأمكنة الثلاث راح مختار يتأمل الحالات المتنوعة ويربط الكيانات ببعضها وفق خلاصات معينة تفسر نصه بوصفه وحدة منسجمة دلالياً، غير محدودة زمكانياً، ويرسم الوجوه التي علقت بذاكرته، بعلاماتها وأشكالها الهندسية القادرة على إنتاج دلالتها بتداول علاقاتها وفق تصور إشتقاقي ذهني ما يجعله يبني بينها سلسلة من العمليات الإدراكية التي ستقوده حتماً نحو تثقيب الذاكرة والإلتقاط منها ومن مخزونها ما يمنحه موقعاً داخل ثقافة ما. جوزيف مختار يشتغل على رسم معالم لها إمتداداتها ضمن وجود المادة التعبيرية ذاتها، فهو يحيل روابط الأشياء بأقواسه الكثيرة إلى أشكال لها إبلاغاتها تبعاً لوقائعها وما تفعله في الأشكال من صياغات تحدث التحقق وفعله بوصفهما وحدتان معنويتان في حدود الواقعة ذاتها بغض النظر عن العناصر المشكلة لها في تنظيم سياقها الخاص، السياق الذي سيحقق لأشكاله تلك حالة معطاة في حدود نواياه وزمنها، وفي ضوء ذلك يمكن لمختار أن يقود منحنياته بعملياتها المتتالية نحو تحققات أخرى ممكنة، مرتبطة على نحو ما بنظام قيمي عام مع إفتراض وجود فضاء إنساني خارج حدود زمنه، وهذه معرفة جديدة منها قد يتسلل مختار نحو إشتقاقات أخرى ستثير إهتماماتنا في حدود زمنها الإنساني، وتجعله قادراً على السير بإنحياز في جهة معينة لإنجاز أشكال خاصة قابلة على إنتاج مقولات ذات حمولة معرفية وجمالية، وهذا ما يمنحه خصوصية الإرتباط بنسق الوجود وإدراكه، وإن في مساره التأويلي الذي يحمل مصالحة ذاتية بينه وبين نفسه، وبينه وبين الممكنات الأخرى. ويمكن القول إن جوزيف مختار، وفي كل حركاته الهلالية، في كل منحنياته، القصيرة منها والطويلة، الصغيرة منها والكبيرة يدون سجلاً من الأشكال التي فيها من التواصل الدلالي ما يكفيه ليعبر عن ضفافه كحصيلة لوجود ذات مبصرة قادرة على البرهنة مشهدياً بأن طبائع حالاته لا تقتصر على الرؤية الأفقية بل تبتسم للرؤية الرأسية / العمودية فيها تسكن مجمل عوالمه الحسية التي تنتمي بدورها لثقافة مختلفة وخاصة، ثقافة مزاميرها تتدفق فيضاناً من الحب والهروب إلى الإنسان النابض بروح الرب، وغالباً ما تكون حاملة لأحلام هي القيم الجمالية التي يودع فيها مختار إنحناءاته الروحية والباحثة عن وطن متنقل لينام فيه. مختار دائماً يطرح على قارئه تساؤلات هي بكثرة الندى على أوراق الربيع، تساؤلات فيها من الإسقاطات البصرية والحسية ما يجعل حركة تكويناته في أشدها وكأنها زخم من معطيات فنية ترغب في الولادة دفعة /دفقة واحدة، وهذا الأمر يجعله يسعى بلوحته نحو الصدى لتلك السيرة الناقصة لعتمة العتبة لأشيائه التي تواجه متاهة الغياب ومتاهة البياض، فهو لا يكتفي بإعطاء اللوحة زخماً من القلق والإضطراب ولو للحظات بل يتنقل بها بين أمكنة الذاكرة بألوان متفجرة قد تشكل عوالمه الجمالية بتطلعاتها الهاجسية بلا أي إرتباط إلا بمناخ فيه الكثير من هويته غير القابلة للتجريد، فهو يضفي الكثير من البنى الهندسية (منحنيات، مثلثات، مربعات .....إلخ) كأشكال تراكمية لتجلياته اللحظية والإيحائية تعوم في فضاء حر ومتداخل في الآن ذاته ليواجه نفسه والحياة بتأملات مرمية كصراخ يحمل من التغيير الكثير، ويزداد درجة هذا التغيير كلما دق الناقوس ممجداً الحب والإنسان.

مشاركة :