بشأن استدامة المالية العامة فإنه في المجال الثاني يتعلق بالمهام المنوطة بنا. فغالبا ما يفترض عدم تداخل السياستين المالية والنقدية. وهذا المفهوم نظري أكثر من كونه حقيقيا. فالسياسة المالية يمكن أن تؤدي إلى تشويه السياسة النقدية، وهو ما سيخبرك به أي من صناع السياسات في الأسواق الصاعدة. وهذا ما تثبته زيادة المخاوف بشأن هيمنة سياسة المالية العامة، ليس أقلها تزايد تركيز البنوك المركزية الكبرى على إرث التيسير الكمي والسياسات الأخرى التي عززت حيازاتها من سندات الدين الحكومي. وبسبب المخاوف بشأن الميزانيات العمومية، تزداد أهمية بقاء المهام المنوطة بالبنوك المركزية بسيطة ومباشرة. ولتحقيق نتائج جيدة، تحتاج الدول إلى استراتيجية اقتصادية كلية أوسع نطاقا تحقق النتائج الرئيسة الأخرى، خاصة استدامة المالية العامة. فبدون هذه الاستراتيجية، لا يمكن للبنوك المركزية ضمان وجود بيئة داعمة للنمو. ومثال ذلك جنوب إفريقيا. ففي تسعينيات القرن الماضي، قامت الحكومة الديمقراطية المنتخبة حديثا بإجراء سلسلة من الإصلاحات التي عززت أطول فترة من النمو المتواصل في تاريخ جنوب إفريقيا. وارتكزت هذه الإصلاحات على ثلاث لبنات أساسية، هي سعر الصرف المعوم، الذي حرر البلاد من التدخلات المكلفة وغير الناجحة في أسعار الصرف، واستهداف التضخم، الذي أدى إلى انخفاض أسعار الفائدة وزيادة استقرار الأسعار، وربما الأهم من ذلك، الانضباط المالي. وهذه الإصلاحات مجتمعة ساعدت البلاد على تجاوز أزمات الأسواق الصاعدة في 1998 و2001. لكن نظرا إلى أنها انطوت على الانضباط والحذر، لم تحظ بشعبية كبيرة. وقد أسهم ذلك بدوره في اتباع منهج أكثر إسرافا على مدار العقد الماضي، مع قدر أقل بكثير من القلق بشأن حجم الإنفاق أو جودته. ونتج عن ذلك تدهور حاد في الاقتصاد الكلي، إلى جانب تحقيق معدلات نمو من أدنى المعدلات في تاريخ جنوب إفريقيا. وتم الحفاظ على أوضاع السياسة النقدية كما هي، لكن السياسة النقدية ليست كل شيء. ومرة أخرى، شهدت الأسواق الصاعدة الأخرى تجارب مماثلة. وحول عملية توازنية فإنه يقودني هذا إلى المجال الثالث من مجالات خبرة الأسواق الصاعدة، وهو كيفية المناورة عند صنع السياسة، وتحديدا كيفية تحقيق التوازن بين اتخاذ إجراءات حاسمة واستمرار الانفتاح على الأفكار والمعلومات الجديدة. في الاقتصادات المتقدمة، ولا سيما في الأعوام الأخيرة، ربما كان التفكير الجماعي مشكلة رئيسة على مستوى السياسات. لكنني لست متأكدا من تعرض الأسواق الصاعدة لهذه المشكلة. ففي حالة السياسة النقدية في جنوب إفريقيا، نادرا ما توصلنا إلى اتفاق بالإجماع على ما إذا كان ينبغي رفع أسعار الفائدة.. يتبع.
مشاركة :