لم تجد أغلبية الأسر ذات الدخل المتوسط في تونس بُدّا في مواجهة أزمة زيادة أسعار المواد الغذائية سوى الالتجاء إلى التقشف، وذلك بالتحكم ليس فقط في نوعية المواد المشتراة، بل في كميتها وكيفية المحافظة عليها أيضا. واضطرت هذه العائلات إلى إعادة ضبط الموازنة وطريقة إنفاقها بما يتماشى مع الأزمة التي أثرت على ظروف عيش التونسيين وحتى على سياسة الإنجاب لديهم. تونس - يؤكد استطلاع للرأي أن أكثر من 60 في المئة من التونسيين يرون أن الأوضاع المالية لأسرهم باتت أسوأ مما كانت عليه، ما فرض على ربات البيوت التقشف وإعادة تبويب الموازنة والتنازل عن عدد من الكماليات كخيار لتحقيق التوازن المالي. وقالت أنيسة حمدي (خمسينية، تشتغل في القطاع الخاص، وتنفق على بنتين وأم في كفالتها) إن راتبها لم يعد يسمح لها بالإنفاق بيسر على أفراد أسرتها، بعد أن شهدت أسعار أغلب المواد الغذائية زيادة غير مسبوقة نتيجة أزمة تضخم لم تعرف مثلها البلاد من قبل. وأضافت حمدي أنها التجأت إلى التقشف حتى لا تضطر إلى التداين، وهي سياسة قد تلتجئ إليها الحكومات في أوقات الأزمات على حد قولها، فلم لا تستغلها هي أيضا. أسعار أغلب المواد الغذائية والمصنعة شهدت زيادة غير مسبوقة نتيجة أزمة تضخم لم تعرف مثلها البلاد من قبل وأوضحت لـ”العرب” أنها لم تعتمد فقط في تقشفها على التحكم في الشراءات بل أيضا في الكميات المشتراة؛ ذلك أنها تخصص خزانة لتخبئة مواد تنظيف الأواني والملابس ومواد تعطير الغرف والحمامات ولا تستعملها إلا عند الحاجة وبكميات محدودة، إضافة إلى أنها لم تعد تطبخ الأكلات الدسمة التي تتطلب تنوعا في اللحوم ولا تُعِدّ الأطباق التي تتطلب تكاليف إضافية. وقالت حمدي “وداعا للهدر ومرحبا بالتقشف. كل شيء أصبح بموازنة مضبوطة وبتخطيط مسبق، فغلاء الأسعار لم يترك لنا حلا آخر”. وفي مارس الماضي أعلن المعهد الوطني للإحصاء أن أسعار المواد الغذائية زادت بنسبة 15.6 في المئة ويعود ذلك بالأساس إلى زيادة أسعار البيض بنسبة 32 في المئة وأسعار لحم الضأن بنسبة 29.9 في المئة وأسعار الدواجن بنسبة 25.3 في المئة وأسعار الزيوت الغذائية بنسبة 24.6 في المئة وأسعار لحم البقر بنسبة 22.9 في المئة. بدورها شهدت أسعار المواد المصنعة زيادة بنسبة 9.8 في المئة، ويعزى ذلك بالأساس إلى زيادة أسعار مواد البناء بنسبة 8.7 في المئة وأسعار الملابس والأحذية بنسبة 9.4 في المئة وأسعار مواد التنظيف بنسبة 10.3 في المئة. كما واصلت نسبة التضخم في تونس منحاها التصاعدي لتبلغ مع موفى فبراير 10.4 في المئة بعد أن كانت النسبة 10.2 في المئة خلال يناير 2023 وسط زيادات لافتة في أسعار المواد الغذائية التي ناهزت في بعض أنواعها 30 في المئة، وفق ما أعلن عنه المعهد المذكور. وسبق للبنك المركزي أن أكد أن نسبة التضخم في تونس لن تنزل تحت مستوى 11 في المئة خلال هذا العام، مع إمكانية تجاوزها هذه النسبة إذا تواصلت أزمة أسعار المواد الغذائية العالمية (التضخم المستورد) وزيادة التضخم المالي بفعل الترفيع في نسبة الفائدة الرئيسية من البنك المركزي التونسي. pp وقال رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية، إن “الأسعار مرشحة للاشتعال أكثر في قادم الأشهر بعد أن دخلت إجراءات قانون المالية حيز التنفيذ من خلال رفع الدعم الكلي عن المحروقات، إلى جانب رفع الدعم عن المواد الأساسية والترفيع في الأداء على القيمة المضافة، مع ارتفاع الطلب على المواد الغذائية”. وأثرت زيادة الأسعار على أسرة مريم الشارني الأربعينية التي لا تعمل وتهتم بشؤون البيت لأنها لم تجد وظيفة تناسب مؤهلاتها. وقالت الشارني لـ”العرب” إنها ستتنازل هذه السنة عن الذهاب إلى المصائف كما تعودت كل عام ولن تحجز في أي نزل مهما كانت أسعاره مناسبة لأنها لم تعد تلائم موازنتها، وأضافت أن مصروف البيت الذي تتقاضاه من زوجها لم يعد يفي بالحاجة، مشيرة إلى أنه لولا حنكتها وحكمتها في التصرف في موازنة البيت لاضطرت إلى الاقتراض من العائلة الموسعة. وأكدت على أن طريقة التقشف التي تعتمدها لم ترض أطفالها الذين تعودوا على مصاريف خاصة وأكلات متنوعة وخرجات متكررة، لكنها مضطرة إلى المضي فيها لأنه ليس لها خيار آخر. ويعيش التونسيون منذ سنوات أزمة اقتصادية انعكست على ظروفهم المعيشية وأثرت حتى على سياسة الإنجاب ونسبة الخصوبة لديهم. ويبدو أن الأزواج الشبان قد اقتنعوا بهذه الأزمة، إذ أصبحوا يكتفون بإنجاب طفل واحد، أو طفلين على أقصى تقدير، رغبة في توفير ظروف حياة أفضل لأطفالهم. 15.6 في المئة نسبة الزيادة في أسعار المواد الغذائية وفق ما أعلنه المعهد الوطني للإحصاء وَوِفق بيانات معهد الإحصاء الحكومي فإن “نسبة الخصوبة” انخفضت بشكل متكرر خلال السنوات الأخيرة، وصولاً إلى 1.8 طفل في سنة 2021، مقارنة بـ2.4 طفل في عام 2013، وتعد المباعدة بين الولادات وتأخر سن الزواج من بين أبرز المؤشرات في هذا السياق. وتصاعدت حدة الأداء الاقتصادي المتعثر مع فشل الإجراءات التقليدية في التحايل على الأزمة المالية. كما دخلت الأوضاع في البلاد مرحلة مناخ الشحن وسط أزمة اقتصادية عمّقتها الأزمة السياسية وجائحة كورونا، الأمر الذي دفع الحكومة إلى استنزاف احتياطاتها النقدية للجم الغضب الشعبي والحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد. واعتبر المحلل الاقتصادي عزالدين سعيدان أن الحلول المفترضة لمعالجة الأزمة الاقتصادية في تونس مرتبطة بضرورة تحسين الحياة السياسية في البلاد، حتى تسمح بالقيام بالإجراءات، ثم المرور بعد ذلك إلى مرحلة تشخيص وتحديد دقيق للمشاكل، وصولا إلى مرحلة تنفيذ الإصلاحات. ويقول إن استعادة التوازنات وخلق فرص النمو وتحقيق انتعاشة اقتصادية مستدامة، لا يمكن أن تكون إلا عبر مشاركة الأحزاب السياسية والكفاءات في بناء العملية الاقتصادية، بعيدا عن سياسة الإقصاء، حتى تعود عجلة الاقتصاد إلى الدوران في مناخ يشجع المزارعين والمستثمرين على العمل. من جهته، يؤكد الخبير الاقتصادي الصادق جبنون أن بداية الحل لا يمكن أن تكون إلا عبر سيادة الإنتاج من جهة، والوقوف على الأسباب الحقيقية للأزمة من جهة أخرى، فضلا عن وضع إجراءات قطاعية صارمة لمواجهة أزمة الأدوية والخبز أو فقدان قوارير الغاز المنزلية، بعيدا عن سياسة الاتهامات. وبعدما كان عام 2022 صعباً على التونسيين اقتصادياً ومالياً بتدهور قدرتهم الشرائية، إضافة إلى تسجيل مستويات قياسية لأسعار معظم المواد الغذائية وتواضع المؤشرات الاقتصادية في البلاد، بدا عام 2023 أكثر صعوبة على تونس وذلك باعتراف الحكومة. وأقرت الحكومة التونسية صراحة ضمن خطتها التنموية لعام 2023 بأن الأمور ستكون أكثر صعوبة وأن هذا العام لن تختلف فيه الأوضاع عن العام السابق وتُرجِم ذلك من خلال نسبة النمو الهزيلة التي تستهدفها الحكومة وهي 1.6 في المئة.
مشاركة :