بصرف النظر عن الأرباح التي حققتها بعض الشرائح من المستثمرين في العملات المشفرة، فإن هذه الأخيرة تمر بفترة أكثر من حرجة، ليس من ناحية انخفاض قيمتها الإجمالية فقط، بل من جهة تراجع ثقة الرأي العام بهذه العملات، بعد أن وصلت إلى مستويات متدنية فعلاً. وتكفي الإشارة هنا، إلى أن القيمة الإجمالية للعملات المشفرة انخفضت إلى 1.3 تريليون دولار، بعد أن سجلت في العام 2021 أكثر من 3 تريليونات دولار. والأهم من هذا وذاك، يعتقد مختصون في القطاع المالي، أن الوعود أن تُحدث هذه العملات ثورة في هذا القطاع قد تحطمت فعلاً، وتؤكد مجلة «إيكونومست» البريطانية الرصينة هذه الحقيقة، وتدعمها أيضاً جهات محايدة، أي لا دخل لها في القطاع المالي مباشرة. ومن المشاكل المباشرة التي تواجه العملات المشفرة، تعرض شركات الإقراض والبنوك لإفلاس تلو الآخر في الآونة الأخيرة، ولا سيما في أعقاب انهيار منصة «إف تي إكس FTX» أهم بورصة لهذه العملات، في الوقت الذي تنتظر فيه السوق عدوى ربما طالت مزيداً من المنصات. الأمر ليس سوداوياً كثيراً، لكنه يبقى خطيراً، خصوصاً في ظل «العداء» الواضح للبنوك المركزية الرئيسية للعملات المشفرة عموماً، في حين تأتي خطوة البنك المركزي الأوروبي الأخيرة لتنظيم سوق العملات، كنقطة تحول في مواقف هذه البنوك، بعد تردد طويل. فالمزيد من الضغوط آتية على ساحتها، وستفرض عليها سلسلة واسعة من القوانين الرقابية المقيدة. وهذا جيد بالنسبة للعملات على المدى البعيد، ولكنه ليس كذلك في المدى القصير. تبقى «بتكوين» العملة الأكثر ثباتاً وسط عدة آلاف من العملات المشفرة، لكنها أيضاً ليست في وضع جديد في المدى المنظور على الأقل. وفي كل الأحوال، يمثل التذبذب الكبير في قيمة هذه العملات مصدراً للقلق المستمر ليس فقط عند المستثمرين بل لدى الجهات المُقرضة، التي لا يمكن أن تتحمل صدمة مصرفية جديدة، بعد أسابيع قليلة من تعثر مصارف في كل من الولايات المتحدة وسويسرا. ليس هناك مجال لاستقرار العملات الرقمية عموماً، إلا من خلال سلسلة من الخطوات تحرص جهة مهمة مثل مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد» على تقديم التوصيات في هذا المجال، في مقدمتها بالطبع التنظيم المالي الشامل للعملات، بل وحتى تقييد الإعلانات المتعلقة بها. وهذه النقطة تعد محورية لتجنب التسويق غير الصحي في أوساط لا تستطيع خوض غمار الاستثمار في مثل هذه العملات. ولعل من أهم النقاط أيضاً، توفير نظام دفع آمن وموثوق، بالإضافة إلى تنسيق ضريبي عالمي، ما يضمن مزيداً من العيون الرقابية على أداء منصات العملات الرقمية بكل أنواعها وقيمها. لا أحد يسعى للقضاء على هذه العملات، لأنها صارت جزءاً أصيلاً من القطاع المالي بصرف النظر عن وضعيتها القانونية والإجرائية الراهنة. فحتى البنوك المركزية تعتزم إطلاق عملاتها الإلكترونية في المرحلة المقبلة. لكن يبقى التنظيم العالمي لها هو الأهم.
مشاركة :