يعتمد الأسلوب التقليدي للتخطيط العمراني على منهج إعداد المخططات العامة للمدن والقرى والتي نحاول أن نرسم الصورة المستقبلية لهذه التجمعات القديمة منها والجديدة على مدى طويل من الزمن يبلغ عادة العشرين عاما في معظم المخططات. والمخططات العامة بهذه الصورة تعتمد على التوقعات المنتظرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسكانية من ناحية كما تعتمد من ناحية على ما هو متوفر من المقومات الطبيعية والبيئية ومصادر الطاقة والمياه والخدمات. وتطبق في هذه الحالة المعايير التخطيطية المتعارف عليها من كثافات للبناء أو كثافات للسكان أو تقدير لحجم الخدمات ونوعياتها من توفير المساكن بمساحاتها المختلفة والمدارس بمستوياتها المختلفة والخدمات الصحية بتدرجاتها المختلفة بالإضافة إلى الخدمات التجارية والإدارية والترفيهية وما يربط كل هذه العناصر من شبكات طرق رئيسية وفرعية ومحلية تصمم لاستيعاب كثافات مختلفة من المرور وبسرعات محدودة على كل نوعية كما ترتبط كل هذه العناصر أيضا بشبكات للكهرباء والاتصالات والصرف الصحي والمياه. وتقدم كل هذه الدراسات في شكل تقارير فنية تدعمها مجموعات من الخرائط التوضيحية والجداول الحسابية الأمر الذي يأخذ من الزمن عامين أو ثلاثة ربما تتغير فيها قاعدة البيانات. والمخططات العامة تعتمد على أساس كامل من البيانات والإحصاءات التي تتوفر من فترة الإعداد أو قد سبق توفرها في الإحصائيات العامة التي تجرى كل عشر سنوات وقد توضع هذه البيانات في شكل جداول أو رسومات بيانية أو على خرائط مساحية بما يطلق عليه نظام البيانات الجغرافية. ومع المتغيرات التي تطرأ على هذه البيانات يتم مراجعة المخططات العامة على فترات خمسية يتم بعدها تقييم الوضع الراهن وما طرأ عليه من متغيرات ولكن وجد بالتجربة أن هذه المخططات العامة لا تحقق أهدافها بالرغم من الدراسات المستفيضة التي بنيت عليها. ولقد لجأت العديد من الدول إلى اقتضاب هذه المخططات العامة إلى مخططات هيكلية توضح المعالم الرئيسية المتوقعة مستقبلا ولا تدخل في التفاصيل حتى تتيح قدرا كبيرا من المرونة وحرية التغيير والتبديل لمواجهة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يصعب على المخطط التكهن بها عند إعداد المخططات العامة. ثم تطورت هذه المخططات الهيكلية إلى مخططات إرشادية تدعمها العديد من القرارات واللوائح والتوجيهات والمعايير والنظم الأمر الذي يتطلب نظاما مؤسسيا خاصا يعمل على دفع ومتابعة وتطوير التنمية العمرانية كعملية مستمرة تتعامل مع المتغيرات المستقبلية. وقد أصبحت هذه النظرية أسلوبا جديدا في التنمية العمرانية بداية مشروع الأمم المتحدة في التخطيط العمراني بالمملكة: بدأ مشروع الأمم المتحدة للتخطيط العمراني بالمملكة العربية السعودية عام 1973م وكان الهدف منه أساسا إيجاد التنسيق بين ما يتم دراسته بواسطة المكاتب الاستشارية الأجنبية المتعاقدة مع وزارة الشؤون البلدية والقروية لتخطيط المناطق الخمس بالمملكة مع إعداد المخططات العامة لخمس مدن في كل منطقة وبين ما يجرى من دراسات تخطيطية في وزارة التخطيط وخاصة ما يرتبط بتخطيط الأقاليم والتوزيع المكاني لاستثمارات الخطط الخمسية المتتالية. بدأ المشروع بتسعة خبراء تحت قيادة كبير الخبراء مع الفريق المقابل في إدارة تخطيط المدن بوزارة الشؤون البلدية والقروية من خلال التعامل مع منجزات الدراسات التخطيطية التي كانت تقدم تباعا من المكاتب العالمية بالمنطق التقليدي في إعداد المخططات العامة للمدن حيث بدأ خبراء الأمم المتحدة يتحسسون طريقهم للبحث عن الأسلوب الأمثل للتنمية العمرانية في ضوء المعطيات المحلية بيئيا واقتصاديا وسياسياً وارتبطت تقاريرهم التقييمية بمخططات تفصيلية بديلة تعكس الفكر الإسلامي في التخطيط الحضري وتربط الأصالة بالمعاصرة وتتواءم مع القيم والمبادئ والبيئة والموروث الحضاري من ناحية ومنجزات العصر من ناحية أخرى. إدارة الوقت اول عقبة واجهت خبراء الأمم المتحدة: تأخر المكاتب العالمية بالنتائج من مخططات وخلافه استغرق إعدادها أكثر من ثلاثة أعوام ان معظم هذه المخططات قد فقدت فعاليتها في ضوء المتغيرات السريعة التي طرأت على المدن السعودية في هذه الفترة فقد بدأت هذه المكاتب عملها فيما بين عام 1971 وعام 1972 ثم بدأت الفعاليات الأولى لمشروع الأمم المتحدة في مرحلته الأولى 1973 حتى عام 1975 أي بعد عامين من المتابعة والتقويم لما قدم من دراسات ومخططات وأن هذا الأسلوب التقليدي في إعداد المخططات العامة لم يعد مقبولاً ولا يصلح لمدن تنمو بسرعة وتتغير بيئتها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية بمعدلات أسرع من أن تلحقها هذه المخططات العامة وكان لابد من البحث عن أسلوب آخر بديل من التكليفات الاستشارية التي تنتهي بانتهاء مدة عقودها. وتترك الساحة التخطيطية بعد ذلك فارغة انتظارا لتكليفات أخرى جديدة.. إما لتجديد المخططات أو لإعداد مخططات تفصيلية وهكذا. طرح التخطيط على مراحل وبأوقات معينة تم وضع التصور للتعامل مع العملية التخطيطية بأبعادها الزمنية الثلاثة: أولا: اليومية وهي التي تواجه المتطلبات الآتية بتوجيه من متخذ القرار دون الانتظار لمخططات بعيدة المدى، الثانية: الخمسية: وهي التي تهدف إلى توجيه الاستثمارات المقررة في الخطط الخمسية والتي تخص المشروعات المختلفة المدرجة لكل مدينة ووضعها في المواقع المناسبة لها في إطار المخططات الهيكلية للمدينة وهذا ما أطلق عليه برنامج التنمية الاقتصادية الاجتماعية والعمرانية الخمسية للمدينة أو المنطقة. وهو ما يتزامن مع البرامج الخمسية للتنمية الاقتصادية التي تحددها وزارة التخطيط وهنا يمكن الربط والتنسيق بين أقطاب العملية التخطيطية وهي الأجهزة المعنية في وزارة التخطيط مع الأجهزة المعنية في إدارة التخطيط العمراني بوزارة الشؤون البلدية والقروية. وهنا أيضا يمكن التكامل بين الجوانب الاقتصادية الاجتماعية والعمرانية في عملية تنموية واحدة ووضع استثمارات الخطط الخمسية في بعدها المكاني. أما البعد الثالث فهو البعد الطويل الأمد الذي يقوم فيه الخبراء المتخصصون كل في مجاله بتقدير التصورات المستقبلية الطويلة الأجل في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية وهو ما يرتبط أساساً بالمخططات الإقليمية للمناطق المختلفة. كما يتضمن التصور الذي وضع لتطوير العملية التخطيطية تحديد الآليات التي تتولى تناول الأبعاد الثلاثة السابقة بحيث تقوم أجهزة وزارة التخطيط بوضع التصورات بعيدة المدى والنظرة - كما تقوم أجهزة وزارة التخطيط بالتعاون مع أجهزة تخطيط المدن في وزارة الشؤون البلدية والقروية بوضع الخطط الخمسية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية والعمرانية للمدن. التي تنقل بعد ذلك لأمانات المدن للتنفيذ على ضوئها بالتكامل مع ما يتم في الواقع اليومي من مشروعات جارية أو تم اتخاذ القرار بشأنها. بداية وضع مخططات الهياكل التنظيمية تم وضع الهياكل التنظيمية والإدارية والفنية لأجهزة التخطيط المحلي على مستوى المدن تحت مسمى "الإدارة العامة لتخطيط وتنمية المدينة" تنشأ في كل مدينة في الأمانة أو البلدية حيث التعامل اليومي مع المتطلبات العاجلة وبهذا المفهوم يتم تكامل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية بالجوانب العمرانية في عملية مستمرة تقوم بها الأجهزة المحلية. الأمر الذي تطلب بالتالي وضع دلائل الأعمال الخاصة بأداء الجزئيات المختلفة للعملية التخطيطية كما تطلب الأمر إنشاء نظام لمراكز البيانات التخطيطية على المستويات المحلية. المنتج الأولي للتجربة: دليل التخطيط العمراني كما ذكرنا في الأجزاء السابقة من هذا الطرح الصحفي للعمران والتنمية بأن العملية التخطيطية عملية مستمرة لها مقوماتها وآلياتها وأجهزتها وأسلوب العمل فيها بأن الأمر يستدعي إعداد دلائل للأعمال التخطيطية التي توضح بالتفصيل أسلوب تناول الجوانب المختلفة للعملية التخطيطية بدءاً من التنظيم الإداري والتوصيف الوظيفي ماراً بأسلوب جمع البيانات وتبويبها واسترجاعها ثم أسلوب إعداد كل من المخططات الهيكلية والتفصيلية والتنفيذية وذلك في ضوء المعايير التخطيطية المناسبة والكثافات البنائية والسكنية مع المعايير الخاصة بالطرق والمرور والأمن والسلامة والدفاع الوطني وتنسيق المواقع وتعتبر دلائل الأعمال التخطيطية بمثابة الوقود الذي يحرك أجهزة التخطيط العمراني ويطبقها أعضاء الجهاز التخطيطي كل في تخصصه وإن لم يتوفر أي تخصص فيمكن في هذه الحالة الاستفادة من الخبرات الخارجية التي تلتزم بتطبيق دلائل الأعمال إلى أن يتم تدريب التخصصات المحلية، وبهذه الطريقة تمكنوا من المساعدة في بناء الهيكل التنظيمي من الموظفين السعوديين تدريجياً حتى استكملت سعودة الأجهزة التخطيطية بالكامل. حيث تم تحرير دلائل الأعمال التخطيطية بأسلوب سهل بلغة بسيطة ومباشرة معززة بالرسومات والأمثلة التوضيحية بحيث يساير النص الشكل في كل حالة فإعداد هذه الدلائل يعتبر من أهم الأعمال في بناء العملية التخطيطية واستقرارها واستمرارها حتى في حالة تغيير الأفراد في أي موقع من الهيكل التنظيمي للعملية التخطيطية. وتشمل دلائل الأعمال بالإضافة إلى الجوانب الفنية أسلوب متابعة المخططات وتجديدها وتعديلها. وكل ما يرتبط بذلك من جوانب تنظيمية وإدارية ومكتبية من مكاتبات وتقارير وحفظ وأرشيف. في ذلك الوقت تم ولادة فكر جديد في تنمية المناطق وصل مشروع الأمم المتحدة - آنذاك - إلى وضع الصيغة المعاصرة لإدارة عملية التنمية العمرانية للمدن القائمة بأبعادها الزمنية وآلياتها العملية فقد تولد عنه فكر جديد لإدارة عملية التنمية العمرانية للمدن الجديدة بعد أن ثبت في الواقع العملي عدم جدوى وضع المخططات العامة لهذه المدن الجديدة لتقطع أوصالها للتنفيذ على مراحل بعد أن ثبت عدم جدوى أسلوب التوقعات الرقمية الجامدة لعملية التنمية العمرانية للمدن الجديدة في المواقع الجديدة.. وهكذا تتم عملية التنمية العمرانية بشكل عضوي يتزايد فيه السكان الجدد كما تتزايد معهم الخدمات المعيشية والمرافق العامة. وتستمر هذه العملية تدار من جهاز خاص قادر على الاستقبال والتوطين مع البناء والتشييد. إلى أن تنمو المدينة وتثمر وتستطيع أن تدار ذاتياً دون تدخل كبير من خارج المنظومة التخطيطية. كذلك تم وضع عدد من الشروط للمنظومة المتكاملة لإدارة عملية التنمية العمرانية الجانب الإداري والمالي والاجتماعي باعتبار أن عملية الاستيطان لا تقتصر فقط على الإسكان ولكنها تتضمن جوانب أخرى مكملة تتمثل في التنمية الاجتماعية والتأهيل الثقافي والتوعية البيئية مع التنمية الاقتصادية وإيجاد فرص جديدة للعمل في كافة المجالات الأمر الذي يتضمن جذب الاستثمارات لإنشاء الصناعات بأنواعها مع إسكان وتدريب الكوادر اللازمة للعمل بها.. وبنفس الأسلوب التنموي تنمو المناطق الصناعية بأنواعها في خط موازٍ للنمو العضوي للمدينة وتبعا لمتطلبات سوق الاستثمار المتغير أيضا. أخيراً لم تكن النظرية الجديدة لإدارة التنمية العمرانية للمدن الجديدة في ذلك الوقت من خبراء الأمم المتحدة ولكن قامت فكرتها من وكالة تخطيط المدن بوزارة الشؤون البلدية والقروية كإفراز طبيعي للنتائج العلمية والعملية والتطبيقية والتي أضافت بعدا جديدا للتنمية العمرانية في المملكة والتي نقطف ثمارها إلى يومينا هذا.
مشاركة :