تجمع شركات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كميات هائلة من البيانات الشخصية، وتتجاوز هذه البيانات المعلوماتية التي يعتقد المستخدمون أنهم يقدمونها، مثل جامعاتهم وأصدقائهم والترفيه الذي يحبونه، بل يمكن لهذه الشركات بناء صورة مفصلة عن حياة كل مستخدم، بما في ذلك سلوك المشاهدة وردود أفعاله على أنواع معينة من المحتوى وأنشطة الناس الرقمية. وتعد هذه الشركات أن جمع البيانات من صميم نماذج أعمال منصات التواصل الاجتماعي، بل لا يمكنها تحقيق نجاح كبير وأرباح ما لم تقم بجمعها، واستخدامها بصور شتى، وأهم تلك الأساليب ما يعرف بالإعلان السلوكي عن طريق تحويل المستخدمين إلى منتجات، ونشاطهم إلى أصول، ومجتمعاتهم إلى أهداف، فالمعلنون على استعداد لدفع سعر مرتفع من أجل توجيه المستخدمين لاستهلاك منتج معين، لهذا أصبحت لدى شركات الإنترنت والتواصل الاجتماعي مخازن ضخمة من البيانات الشخصية تمثل في حد ذاتها أصولا رقمية ومصدرا لا ينضب لتحقيق الأرباح، ورغم أن هذا الأمر معروف، وليس هناك ما يمنع شركات الإنترنت من استخدامها من أجل تعظيم أرباحها، فإن المشكلة القائمة لم تزل تتعلق بحق تسريبها للآخرين أو عدم حمايتها بما يكفي لمنع اختراقها وسرقتها، وقد تعرض عديد من الشركات لفضائح تسريبها بصور مختلفة، وكان من أشهر تلك التسريبات ما حدث 2013 في موقع ياهو المعروف، عندما كانت شركة Verizon في طور الاستحواذ عليه فتم الوصول إلى معلومات الحساب الخاصة بأكثر من ثلاثة مليارات من عملائها بواسطة مجموعة من القراصنة. وفي 2018 تم الإعلان عن انكشاف معلومات أكثر من 1.1 مليار شخص بما في ذلك الأسماء والعناوين والصور وأرقام الهواتف ورسائل البريد الإلكتروني، إضافة إلى البيانات البيومترية مثل بصمات الأصابع وقزحية العين بالأشعة التي كانت في قاعدة بيانات Aadhaar عبر الموقع الإلكتروني لشركة Indane. وفي 2019 تم الكشف عن تسريب بيانات من تطبيقات فيسبوك على الإنترنت تتضمن معلومات متعلقة بأكثر من 530 مليون مستخدم لفيسبوك شملت أرقام الهواتف وأسماء الحسابات ومعرفات وأرقام ومعلومات تتعلق بالتحقق، وأثبتت هذه الجرائم والقرصنة مدى خطورة جمع البيانات الشخصية للعملاء، ومدى خطورة التساهل في أمنها، وأن هذه البيانات التي تجمعها منصات التواصل الاجتماعي وتحتفظ بها معرضة للقرصنة، خاصة إذا فشلت المنصات في وضع تدابير أمنية مهمة وقيود الوصول، ومع انتشار دور الذكاء الاصطناعي والقدرات الهائلة لمعالجة البيانات الكبيرة وإعادة تشكيلها ونشرها كحقائق جديدة، فإن المخاطر تتزايد بشأن نتائج تسريبها أو بيعها بأي صورة أو استخدامها لغير ما تم الاتفاق بشأنه بين المستخدم لهذه التطبيقات وبين الشركات المشغلة لها، وعلى هذا فإنه يجب تشديد الأنظمة والرقابة والتعامل بحزم مع الجهات كلها التي تمتلك بيانات المستخدمين، ويجب تطوير أدوات ونماذج للفحص والمراقبة، بل يجب على هذه الشركات تقديم إقرارات سنوية بشأن المحافظة على سريتها والمحافظة عليها، ومع ذلك، فإن الدراسات المختلفة أشارت إلى أن إنفاذ القوانين والتشريعات الخاصة بحمايتها لم يزل ضعيفا في عديد من الدول. الجدير بالذكر هنا ما نشرته "الاقتصادية" من فرض غرامة تبلغ 1.2 مليار يورو "1.3 مليار دولار" على شركة ميتا المالكة لفيسبوك، لنقلها بيانات مستخدمين في الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة، وقالت اللجنة الأيرلندية لحماية البيانات، التي تتحرك نيابة عن الاتحاد الأوروبي، "إن المجلس الأوروبي لحماية البيانات أمرها بتحصيل غرامة إدارية تبلغ 1.2 مليار يورو"، وذلك لأن "ميتا" التي يقع مقرها الأوروبي في دبلن، قد فشلت في معالجة المخاطر التي تتعرض لها الحقوق والحريات الأساسية، وإضافة إلى ذلك، تم إلزام "ميتا" بوقف نقل بيانات شخصية أوروبية أخرى إلى الولايات المتحدة، وهذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها فرض عقوبات على شركات فشلت في حماية الخصوصية، حيث سبق أن تعرضت شركة فيسبوك لغرامة بقيمة خمسة مليارات دولار من لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية، كما فرضت عقوبة 148 مليون دولار على شركة أوبر، و230 مليون دولار على الخطوط الجوية البريطانية. هذه الحالة من التشدد المتصاعد في التعامل مع البيانات تعد مثالا جيدا لما يمكن أن تقوم به الحكومات من أجل إنفاذ القوانين وتعزيز حمايتها، وهي حالات قد تتكرر في المستقبل القريب، نظرا لما شهدته الأعوام الماضية من تسريبات وفضائح لاختراق التطبيقات وسرقة بيانات مهمة للمستخدمين، فمثل هذه التشريعات القوية الفعالة تساعد على بناء الثقة في التطبيقات الرقمية، التي تستخدمها المؤسسات المختلفة في القطاعين العام والخاص، كما أن حماية المواطنين من إساءة استخدام بياناتهم الشخصية يجعلهم أكثر قبولا للخدمات التي تعتمد على مشاركة البيانات واستخدامها، ما يعزز الاستثمارات في هذه التطبيقات وبرامج التحول الرقمي. لكن يجب الإشارة هنا إلى أن آليات إنفاذ القوانين الخاصة بحمايتها يجب ألا يصل إلى حد الإفراط في التنظيم الذي يتطلب تكاليف امتثال عالية تلحق أضرارا خاصة بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فالتجارة الإلكترونية اليوم تتوسع بشكل غير مسبوق وتحقق فرصا واسعة لصغار المستثمرين، وفرض متطلبات ذات تكلفة عالية قد يقيد مثل هذه المشاريع، أو يعوق نموها، فلا بد من التوازن بين الأمرين.
مشاركة :