بدأ المراقبون السياسيون في العراق يربطون كل ما يجري على الساحة السياسية بمعركة انتخابات مجالس المحافظات المقرر إجراؤها نهاية العام الحالي. وبدأت كل القوى تتحضر لتلك المعركة التي ستغير خريطة التحالفات الانتخابية، خصوصاً أن الانتخابات النيابية المقبلة لن تجرى قبل 3 سنوات في ظل الحكومة الحالية التي شُكلت بعد مخاض سياسي كبير، كان أبرز نتائجه خروج «التيار الصدري» بأمر من زعيمه مقتدى الصدر من البرلمان وتعليق عمله السياسي لمدة عام. فالحكومة تشكلت برئاسة محمد شياع السوداني أواخر العام الماضي عبر تحالف اسمه «ائتلاف إدارة الدولة»، ويضم أبرز القوى الشيعية (الإطار التنسيقي) والكردية (الحزبان الكرديان الرئيسيان الديمقراطي والاتحاد الوطني) والسنية (السيادة وعزم). الذين بقوا خارج هذا التحالف من داخل البرلمان هم المستقلون وبعض القوى الصغيرة، لكنهم لم يشكلوا قاعدة للمعارضة البرلمانية حيال الحكومة، في حين يشكل «التيار الصدري» بزعامة مقتدى الصدر أبرز القوى البرلمانية والسياسية التي تعارض من خارج البرلمان والحكومة، لا سيما بعدما سحب الصدر نواب كتلته البالغ عددهم 73 نائباً من البرلمان. هدايا الصدر الطرف الآخر المعارض تشكل من القوى المدنية و«قوى تشرين» (الأول/ أكتوبر) التي تعرضت لضربات قوية ما بعد «حراك تشرين» عام 2019 إلى حد جعلها تعتمد في تحركاتها على قوة «التيار الصدري» في الشارع، لكن الصدر، بعد ظهور ما يسمى حركة «أصحاب القضية» الذين يدعون أن الصدر هو «المهدي المنتظر»، اتخذ قراراً خطيراً لم يكن متوقعاً في ظل الحراك الحالي استعداداً لانتخابات مجالس المحافظات نهاية العام الحالي، وهو تجميد عمل «التيار» لمدة عام. وما لم يتخذ الصدر قراراً بالعدول عن قرار التجميد، فإنه يكون قد قدم هدية مجانية «ثمينة جداً» لخصومه الشيعة، وذلك بترك الساحة لهم في المحافظات الوسطى والجنوبية ليستفردوا بها ويحصلوا على مقاعد «التيار الصدري». وتعد هذه الهدية هي الثانية في غضون عام لقوى «الإطار التنسيقي» من قبل الصدر؛ إذ كانت الأولى سحب نوابه الـ73 من البرلمان وحل محلهم نواب من «الإطار»، ما جعله أكثر كتلة برلمانية عدداً وأهّله بكل بساطة لتشكيل الحكومة الحالية. ولكي يجدوا حلاً لإشكالية انتخاب رئيس الجمهورية الذي يحتاج طبقاً للدستور العراقي إلى ثلثي أصوات أعضاء البرلمان، وقعوا اتفاقاً سياسياً مع الأكراد والسنة أطلقوا بموجبه ائتلافاً جديداً هو «ائتلاف إدارة الدولة». يذكر أن الصدر كان فشل في تشكيل ائتلاف مماثل لكي يشكل ما سماه «حكومة الوحدة الوطنية»؛ لأن خصومه قوى «الإطار التنسيقي» كانوا يملكون «الثلث المعطل». بين السياسي والعقائدي ولأن المعركة الخاصة بانتخابات مجالس المحافظات، التي حددها البرلمان نهاية العام الحالي، بدأت على الأقل على مستوى الكيفية التي سوف تدخل بموجبها مختلف الكتل تلك الانتخابات؛ فإن من شأن ذلك أن يبدأ بفتح معارك تبدو جانبية لأول وهلة، لكنها سرعان ما تتحول إلى إحدى العلامات الفارقة في خريطة التحالفات والتحولات السياسية. فالانتخابات المحلية المقبلة (مجالس المحافظات) سوف تكون إلى حد كبير بديلاً عن الانتخابات البرلمانية التي يبدو أنها لن تكون قبل نهاية الدورة الحكومية الحالية (ثلاث سنوات ونصف السنة على الأقل)؛ لذلك فإن القوى السياسية البرلمانية، ومن أجل المحافظة على أوزانها والتحضير من خلال عدد مقاعدها في مجالس المحافظات المقبلة لأي انتخابات برلمانية مقبلة، تعمل على الاستعداد لتلك المعركة من زوايا مختلفة. واحدة من هذه الزوايا المعركة داخل البرلمان بشأن الموازنة. فعلى الرغم من الخلافات المعروفة داخل البرلمان بشأن الموازنة لجهة العجز أو سعر صرف الدولار أو أسعار النفط أو كونها ثلاثية (للسنوات الثلاث المقبلة)؛ فإن هناك خلافات تتعلق بالمناقلات بين الوزارات والمحافظات، وهو ما يعني حاجة القوى السياسية من كل الأطراف والأطياف إلى الحصول مبكراً على أموال إضافية لهذه المحافظة أو تلك استعداداً لتلك الانتخابات. الجانب الآخر الذي يمثل خطورة بحد ذاته هو ما أعلنه الصدر أخيراً من أن الخلاف بينه وبين خصومه انتقل من السياسي إلى العقائدي. ما يقصده الصدر بشأن ذلك هو أن ما يسمون بـ«أصحاب القضية» الذين يصرون رغم تكفيرهم من قبله على أنه هو المهدي المنتظر، أنهم مدفوعون من خصومه في بعض الفصائل المسلحة (يسميها هو الميليشيات الوقحة)، دون أن يحدد من هي، بهدف إبعاده عن المشهد السياسي في حال فكر بالعودة إليه ثانية عبر الانشغال العقائدي بقضية خطيرة عند الشيعة. ومع أن الصدر كرر مراراً أنه ليس مرجعاً ولا مجتهداً ولا معصوماً، وأنه «مجرد خادم لشسع نعل الإمام المهدي»، فإن كل هذا لم ينفعه في الذود عما يعلنه بين فترة قصيرة وأخرى بأنه هو «المهدي المنتظر». إشكالية السوداني والحلبوسي ليس المقصود من هاتين الإشكاليتين ما قيل عن وجود خلافات بين الرجلين تتعلق بالصلاحيات وحدود تلك الصلاحيات، بل المقصود أن كلا الرجلين بات يشكل إشكالية للفريق السياسي الذي ينتمي إليه. السوداني كان قبل ترشيحه لرئاسة الوزراء يتزعم تياراً ناشئاً اسمه «تيار الفراتين» (حصل على مقعدين في البرلمان)، لكن ترشيح السوداني لمنصب رئيس الوزراء لم يكن بسبب أصوات حصل عليها بقدر ما هو توافق سياسي شامل حظي به لأسباب تتعلق بمواصفاته السياسية وحنكته الإدارية ونزاهته بالقياس إلى المناصب التي شغلها (وزير لنحو 5 وزارات، ونائب لعدة دورات برلمانية، ومحافظ سابق، ومدير زراعة سابق). ولأن الطريقة التي يصل بها رؤساء الحكومات في العراق لا صلة لها بعدد ما يحصلون عليه من مقاعد برلمانية، فإن السوداني تعامل مع المنصب بوصفه مبدأ خدمة عامة للناس، وهو ما جعله يدخل في تفاصيل المشاريع والوزارات ودوائر الدولة، الأمر الذي بات من وجهة نظر حلفائه قبل خصومه يشكل خطراً عليهم في حال دخل أي انتخابات مقبلة محلية أو برلمانية، ترتب على ذلك حصول خلافات داخل قوى «الإطار التنسيقي» بشأن ذلك الأمر الذي يمكن أن يؤثر على مبدأ التحالفات، وربما يفتح ثغرة في جدار التوافقات، سواء فيما بينهم أو مع حلفائهم في ائتلاف «إدارة الدولة». هذا الخلاف الذي لا يزال مسكوتاً عنه رغم أن تداوله في وسائل الإعلام وفي الحوارات التلفازية أمر طبيعي، يمكن أن يغير خريطة التحالفات المقبلة بين قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي. وإذا استبعدنا الكرد الغارقين في مشاكل حزبيهما الرئيسيين (الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، والاتحاد الوطني بزعامة بافل طالباني) لكونهم لا يدخلون أي انتخابات منذ الدورة البرلمانية الثالثة على مستوى العراق بوصفهم متحدين، بل متفرقين؛ فإن الإشكالية الأخرى هي داخل المكون السني وتتصل برئيس البرلمان وأحد أقطاب تحالف السيادة محمد الحلبوسي. فالخريطة السنية متموجة أصلاً وتحالفاتها هشة على طول الخط، لكن ما تشهده الآن من خلافات واختلافات يعد الأسوأ بعد أن بات واضحاً أنه لم يعد بمقدور السنة تشكيل تحالف سني كبير. فالحلبوسي الذي يتزعم «حزب تقدم» كان تحالف مع زعيم «تحالف عزم» خميس الخنجر لتشكيل «تحالف السيادة»، لكن الآن بدأ «تحالف السيادة» يتصدع بعد أن تم الإعلان عنه في أحد أقضية صلاح الدين (الشرقاط) كتحالف بالاسم نفسه، لكن دون «حزب تقدم» وزعيمه محمد الحلبوسي. إذن، هناك خلاف سني - سني بدأ يكبر، الأمر الذي سيؤثر هو الآخر على خريطة التحالفات وجدار التوافقات.
مشاركة :