قال إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ د.أحمد بن علي الحذيفي -في خطبة الجمعة-: إنه بعد ست سنوات من البعد والنوى، خرج صلوات الله وسلامه عليه في زهاء أربعمائة وألف من أصحابه في مستهل ذي القعدة، ميمماً راحلته شطر البيت الحرام، يسوقها إلى تلك الربوع سوقاً، ويحثها إلى مهوى قلبه شوقاً، فسار لا يلوي على غير البيت العتيق، ولا يقصد إلى غيره، ليس معه ومع أصحابه من سلاح إلاّ سلاح المسافر، فتحرك الركب الميمون، حتى إذا بلغ ذا الحليفة أحرم بالعمرة، وقلد الهدي وأشعره ليعلم الرائي أنه ركب وافد على البيت لا يريد القتال، فمضوا سراعاً تطوي رواحلهم البيد طياً، فلما اقترب من الحديبية بركت ناقته القصواء فقال بعض الناس خلأت القصواء، فقال صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت حتى نزل بأقصى الحديبية، فبلغه أن أهل مكة قد أرصدوا له ليصدوه عن البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، فأبوا أن يدخل مكة لئلا يتحدث العرب أنه دخلها عنوة، وبعد مراسلات ومداولات بين الفريقين جنحوا للصلح على أن يرجع ذلك العام، ويعود من العام القابل، فيقيم بمكة ثلاثاً ليس معه ومع أصحابه إلاّ سلاح الراكب وتم أمر الصلح على ما رغب أهل مكة. وأضاف: فشق ذلك على الصحابة مشقة عظيمة، لما حيل بينهم وبين البيت الحرام، ولما تضمنته بنود ذلك الصلح من شروط مجحفة فأنزل الله في ذلك سورة الفتح منصرفه من الحديبية، واستهلها باستهلال عجيب، واستفتحها باستفتاح مهيب: «إِنَّا فَتَحنا لَكَ فَتحاً مُّبينا، لِّيغفر لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذنبك وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيما وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نصراً عَزِيزًا، هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المؤمنين ليزدادوا إيماناً مَّعَ إيمانهم وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَوَاتِ وَالأرضِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيماً»، في تسلسل بديع يستلب القلوب، إنها واقعة من وقائع سيرته العطرة وحادثة من حوادث أيامه النضرة، تحمل في طياتها من العظات واللطائف ما تضيق عنها بير الصحائف، تستوجب النظر بعين الاعتبار إلى معالم آثارها، واستنطاق العبرة واستدرار العبرة من أسرار أخبارها. وتابع: من تلكم العبر والدروس أنه ربما تشرق النفوس بالأمر وتغص به، لما يبدو لها في ظاهره، ولكن الله يقضي للمؤمن القضاء الذي يحمد مآله فينجلي غبار المكروه عن محبوب، ويبسم وجه النهار بعد غمرة الدجى، فقد سمى الله ذلك الصلح مع ما في ظاهره مما تكرهه النفوس وتأباه سماه فتحاً مبيناً، وذلك أنه حين ينفذ نظر الاعتبار من ظاهر أمر ذلك الصلح إلى ما آل إليه، ويستشرف عاقبته ويطمح ببصره إلى غايته يتحقق صدق رب لنا في محكم تنزيله حيث يقول: «فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية»، وقال الزهري: ما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فلم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلاّ دخل فيه.
مشاركة :