خلال المقال السابق أشرت إلى خلاصة المناقشات التي أثيرت في مؤتمر مركز تحليل العلاقات الدولية بأذربيجان حول واقع ومستقبل حركة عدم الانحياز والذي شاركت فيه خلال الشهر الحالي، ومن بين تلك الخلاصات أنه بالرغم من وجود مصلحة أكيدة لدول الحركة في دعم دورها وخاصة في ظل التحديات المشتركة التي تواجهها من ناحية والتحولات التي يشهدها النظام العالمي من ناحية ثانية فإن هناك تحديات عديدة تواجه عمل الحركة وهذا هو جل المقال. كما أشرت من قبل بشأن عمل تنظيمات العمل متعدد الأطراف فإن مدى نجاح تلك المنظمات لا يعتمد على رغبة أعضائها ومدى ما لديهم من أوجه قوة وإنما السياق الإقليمي والعالمي، وما يرتبه من تحديات حددها المشاركون في خمسة تحديات أولها: تأثير ارتباط الدول ببعض الشراكات الدولية الأخرى سواء أكانت ذات طابع سياسي أو أمني أو اقتصادي والتي فرضت على تلك الدول انتهاج سياسات خارجية تتضمن تحقيق التوازن بين المصالح والمبادئ، ومع أنه من الطبيعي أن تحدد كل دولة مصالحها فإن ذلك ينعكس على التزامات الدول في العمل الجماعي داخل حركة عدم الانحياز، وثانيها: زيادة عدد التهديدات الأمنية بل وتسارع وتيرتها بشكل غير مسبوق وخاصة الإرهاب والهجرة غير الشرعية واللاجئين والتغير المناخي والأمن الغذائي والتي تحتاج إلى إجراءات عاجلة وليست آجلة إلا أنه في ظل تباين أولويات الدول وقدراتها في الوقت ذاته فإن ذلك يحول دون وجود مبادرات شاملة يمكن أن تمثل إطاراً مشتركاً للعمل في مواجهة تلك التحديات ولا يعني ذلك أن الحركة وقفت مكتوفة الأيدي أمام تلك التحولات بل كانت هناك مبادرات مهمة من جانب أذربيجان خلال رئاستها للحركة أشرت إليها في المقال السابق، وثالثها: هيكل النظام العالمي الراهن بغض النظر عما يتردد بشأن وجود تحولات ومع أخذها بعين الاعتبار فإن الهيكل لا يزال هو عبارة عن مثلث في قمته دول كبرى ذات تأثير في ذلك النظام وبالمنتصف دول كبرى ولكن ليس لديها تأثير كبير في ذلك النظام ثم الأغلبية العددية من دول العالم الثالث وهو ما يتوافق عليه باحثو العلاقات الدولية، وما يعنيه ذلك من أنه من الصعوبة بمكان أن ترى دول العالم الثالث أو القارة الإفريقية مقعداً لها في مجلس الأمن في المستقبل القريب، ورابعها: أن الحديث عن مفهوم دول العالم الثالث وأولوياتها يأتي في المرحلة الراهنة ضمن سياق عالمي مختلف عن ذلك الذي أنشأته في ظله الحركة آنذاك ومفهوم حركات التحرر الوطني والاستقلال، اليوم هناك اختلاف بين طبيعة النظم السياسية في تلك الدول واختلاف أولوياتها كذلك وارتباطاتها الإقليمية والدولية سواء من خلال شراكات أو تحالفات لكن ذلك لا يعني وجود حائط صد أمام تحقيق فكرة العمل الجماعي من خلال حركة عدم الانحياز فالدول الصغرى بإمكانها الاضطلاع بقضاياها والتأثير في منظومة العلاقات الدولية بما يحقق مفهوم الطريق الثالث في تلك المنظومة، وخامسها: مع أهمية وجود اتفاق بين المشاركين حول دور الحركة ومبادئها فقد كان لافتاً تأكيد البعض القول: «المبادئ لا يتم الدفاع عنها بالمبادئ وإنما بالقوة» بما يعنيه ذلك من ضرورة وجود تفاهمات بين دول الحركة على دعم قوتها ولا يقصد بها المفهوم العسكري التقليدي بل القوة الاقتصادية والسياسية والثقافية وجميعها جوانب مهمة للقوة من خلال الاستغلال الأمثل للموارد. ومع أهمية مخرجات المؤتمر المشار إليها فقد كان لافتا تخصيص المؤتمر جلستين لإفريقيا خلال اليوم الثاني بعنوان «تمكين إفريقيا ودعم التعددية خلال التحديات العالمية»، وقد انطلق ذلك من الدور المحوري الذي تلعبه الدول الإفريقية داخل تلك المنظمة سواء في بدايات التأسيس الأولى أو عضوية 54 دولة إفريقية ضمن تلك المنظمة، وقد تمثلت أبرز التحديات التي تواجه تلك الدول في عدة أمور أولها: إشارة البعض إلى أن الاستعمار وإن انتهى بمفهومه القانوني فإنه لا يزال ينعكس في سياسات بعض الدول الكبرى في إفريقيا والتي تنعكس على حالة الاستقرار السياسي في بعض من تلك الدول، وثانيها: كيفية توفيق الدول الإفريقية لالتزاماتها داخل تجمعات أخرى منها الاتحاد الإفريقي، المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «الإيكواس» منظمة الإيجاد، وثالثها: وجود عدة تحديات تواجه الدول الإفريقية بشكل متزامن سواء ما يرتبط بها بمتطلبات تحقيق التنمية ومواجهة تداعيات التغير المناخي وكذلك تحدي التكنولوجيا، والتنافس الدولي على القارة الإفريقية والذي يتخذ أشكالاً عديدة من بينها المنح والمساعدات أو الاتفاقيات مع القوى الكبرى، والمجمل أن حالة التنافس تلك تفرض خيارات صعبة على الدول الإفريقية، فبعض الدول الإفريقية غنية بالذهب على سبيل المثال ولكن لم ينعكس ذلك على مؤشرات التنمية، إلا أن بعض المشاركين أكدوا أن الدول الإفريقية لا تحتاج إلى المساعدات بقدر حاجتها إلى حوار حقيقي بين الشمال والجنوب، ورابعها: مع أهمية الحديث عن مستقبل الحركة ولكن لابد ألا نتجاهل الماضي وخاصة مفهوم عدم الانحياز ذات وكيفية تكييفه مع الوضع الراهن وتحديد مفهوم الطريق الثالث الذي تسعى إليه دول الحركة في الوقت الراهن وتحديد المبادئ التي يجب أن تكون ذات أولوية للحركة وجميعها قضايا ربما تكون ذات خلاف بين أعضاء الحركة وفقاً لمصالحها وكذلك أولوياتها في الوقت الراهن، وخامسها: كيفية تحديد ما أسماه البعض «البوصلة الاستراتيجية للحركة» في ظل نظام دولي قائم على التحالفات والتي تنعكس أيضاً في بعض دول القارة الإفريقية. وعلى الرغم من تلك التحديات فإن روح التفاؤل سادت المؤتمر فانعقاد ذلك المؤتمر الذي ضم نخبة من الأكاديميين والمسؤولين التنفيذيين على أرض أذربيجان الرئيس الحالي للمنظمة يعد دليلاً على وجود اهتمام من دول عديدة بدعم دور تلك المنظمة المهم في سياق التحولات العالمية الراهنة والتي قد لا تتيح الكثير من الفرص للدول الصغرى للتعبير عن قضاياها ولكن يتوقف الأمر على مدى تطور الحركة ذاتها بشكل مؤسسي ومدى الدعم المتاح لها من دولها الأعضاء، وضرورة اتفاق تلك الدول على قائمة تحديات بها أولويات وآليات واضحة للعمل من خلال التعاون في الوقت ذاته مع التنظيمات الإقليمية الأخرى، والغاية النهائية هي وجود نظام عالمي تعددي وفي الوقت ذاته تعظيم الفائدة من خلال التعاون المتعدد الأطراف في ظل وجود تحديات مشتركة تحتاج إلى تعاون وثيق مثل التغير المناخي والأمن الغذائي. وخلاصة القول إن الحركة التي تأسست على مبادئ مهمة ولعبت دوراً أهم، لديها الفرصة للنهوض مجدداً بذلك الدور من خلال آليات جديدة وجهود تكاملية بين دولها وإمكانية ضم أعضاء جدد في تنامي عمل التنظيمات الإقليمية والعمل الجماعي عموما. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
مشاركة :