حالة من الثراء الذهني تمنحها لنا رواية "نجمة إيليا"، التي تبحر بقارئها وتتعمق في عالم نفسي بحبكة واقعية ذكية، تحدث دهشة في قلب كل من يقرأها، وتثير العجب والإعجاب. نجمة، بطلة الرواية، لها من اسمها نصيب، وتحمل في كل تصرفاتها أثرا ذا بعدين، فهي رقيقة عميقة كقطرة المطر، قادرة على أن تنبت زهرة، وتهدم الجبل أيضا، في تجسيد بديع لنظرية "أثر الفراشة"، وما يمكن أن تحدثه تصرفاتنا بأثر معقد. لحظة مفصلية .. ولغة ثرية يحدث أن تمر بنا لحظة تقلب حياتنا رأسا على عقب، تحدث لنا إزاحة في نياتنا، معتقداتنا، وأهدافنا، ترمينا في مساحة غريبة لا نعرفها، وتطلب منا أن نتعايش معها، وكانت حياة نجمة الرواية مليئة بتلك اللحظات، مثل مرورها بحادث مروري، ولقائها شخوص الرواية الذين أثروا فيها كثيرا. في لغة ثرية، وقدرة عالية على الوصف تمتلكها الروائية الكويتية نور الجواد، تدور الرواية الصادرة عن نوفا بلس للنشر والتوزيع، وتقع في نحو 180 صفحة، حول نجمة، ابنة الـ36 عاما، لكنها بروح طفلة لم يتعد عمرها الـ15، تتعرض لحادث مروري أليم فقدت إثره النظر، وبات محجرا عينيها خاويين، أسودين، لا يسكنهما إلا ظلام الليل. الحل الوحيد الممكن لنجمة هو الحصول على متبرع لزراعة قرنية، وبالفعل تنجح في الحصول على المتبرع وتستعيد بصرها، لكنها تبدأ برؤية شخص غريب يدعي أنه حارس هذه العين، ماذا يريد منها هذا الحارس؟ عالم فضفاض في طيات الرواية فلسفة عميقة، بدءا من صفحاتها الأولى التي تقول فيها الجواد، "تكتشف أن هذا العالم فضفاض إلى درجة محاولة إمساك أي شيء يوقف سقوطك إلى الهاوية، لتكتشف في النهاية أن كل أشيائك مجرد عدم". كانت تخفي نجمة خلفها عالما واسعا وماضيا يبدو قاسيا، تتسرب ملامحه في سطور الرواية حينما تقول، "سرية أنا أشبه التمتمات المختبئة خلف تلك الجدران الملونة بطريقة طفولية، حتى تستر خلفها كثير من الوجع.. حاول أن تنصت دون أن يلحظ وجودك أحد، حاول أن تخترق الجدران بطريقة احترافية، حتى ترى الحقيقة كما هي بلا قناع يجملها، سرية أنا كلفحة عطر لسعتك ذكرياتها كالنار، سريعة، لكنها ستترك أثرا". أولى حبكات وإحدى أهم لقطات رواية "نجمة إيليا"، كان لقاؤها -وهي كفيفة- العم عذبي، كهل تكالبت عليه الأمراض، فبات يعيش في المشفى بشكل دائم، كان يمضي الوقت معها، يؤنسها فيقرأ لها من الشعر شيئا، ومن الروايات صفحات أخرى، وفي مرات يدخلان في حوار عن الدين والسياسة، وفي بعض الأحيان يختار شخصية ليحللا حياتها، وتطوراتها، والأحداث التي مرت بها، فكان الوقت يمضي دون أن تشعر به، حتى باتت لا تتذكر بأنها فاقدة للبصر إلا في دقائق معدودة خلال يومها الطويل، وتروي "سبحان الله كيف يأتي شخص غريب يدس في عالمك السعادة بطريقة تنسيك حتى ما كان بالأمس مصيبة عظيمة، كانت بالنسبة إليك نهاية العالم!". يفك رموز الذكريات تسير بنا الرواية إلى عملية جراحية تجريها نجمة بعد أن حصلت على قرنية، وفي ظل اختفاء العم عذبي يظهر لنا "إيليا"، الشاب الذي التقته نجمة بعد أن استعادت بصرها في المقهى، فغير من حياتها وحاول أن يكشف أكثر عما تخبئه من ذكريات في صدرها. من كان مكفوفا -ولو مؤقتا- يخشى أن يعود إلى حالته الأولى مجددا، لذلك تعلمت نجمة لغة برايل، وكانت تنتابها الوساوس بفقدان البصر مرة أخرى، لأنها أحيانا تصاب بغشاوة في بصرها، فظلت تقرأ الكتب بهذه اللغة، حتى لا تنساها، وتعلمها لمن يحتاج إليها. ما بعد عملية إعادة البصر وزرع القرنية لنجمة، ليس كما قبلها حتما، بعدها بدأت تحلم بشخص يطلب منها مساعدة الناس الذين يحتاجون إليها مرة بعد مرة، تشعر بأن هذا الشخص هو المتبرع لها بقرنيته، حاولت كثيرا معرفة هوية المتبرع، لكن الرفض كان الجواب. كان هذا الشخص يهددها بفقدان البصر، مثلما عاد إليها، سينتزعه منها إن لم تنفذ أوامره، فأصبحت نجمة تساعد الجميع خشية أن تفقد بصرها مرة أخرى، لكن السحر ينقلب على الساحر في كل مرة، وبطريقة غريبة للغاية، تهدد أمنها وسلامتها وعلاقتها بالآخرين. قد يبدو ضربا من الجنون، لكن نجمة صارت تشعر بأن صاحب هاتين العينين يملك قوى خارقة انتقلت إليها، فهل هما متفردتان ولهما خاصية فريدة، تجيب الرواية عن ذلك. عامان من الكتابة نور الجواد تكشف تفاصيل أكثر في حديثها لـ «الاقتصادية» خلال حضورها معرض المدينة المنورة للكتاب، عن روايتها "نجمة إيليا"، فهي الإصدار السادس في مسيرتها، إذ بدأت مسيرتها ككاتبة في 2013 من خلال كتابة الخواطر والنصوص الأدبية، فتقاسمت إصداراتها الستة مناصفة بين الخواطر والروايات. وأضافت الروائية وخريجة علم النفس، أن روايتها الأولى "أحجية آدم" كتبت بعد أن انتهت من دراسة علم النفس الجنائي، وكونت لديها فكرة الرواية، ومنها كانت الانطلاقة في عالم روايات علم النفس. حبكات الجواد مدروسة، وقد يعود ذلك إلى الوقت الذي تمنحه لنفسها وهي تكتب الرواية، إذ تقول إن الرواية الواحدة تستغرق ما لا يقل عن عام واحد أثناء كتابتها، فيما استغرقت عامين في كتابة "نجمة إيليا"، التي كتبت جزءا منها خلال جائحة كورونا التي ألمت بالعالم كله. وتضيف نور الجواد، في حديثها، أنها تستأنس برأي من وصفته بـ"الجندي المجهول"، شخصية لا تستغني عنها في قراءة كتاباتها وصفحات الرواية أولا بأول، وإبداء الملاحظات والاقتراحات. وبينت في سياق آخر أنها تختار عناوين رواياتها بإلهام من أسماء الأبطال والشخصيات الرئيسة، مثل الفتاة أحجية، والرجل آدم، فتكونت هنا رواية "أحجية آدم"، والأمر ذاته للفتاة حلم والشاب قابيل فتكونت رواية "حلم قابيل"، وهذا ما حدث فعلا في "نجمة إيليا". عمياء البصيرة .. لا القلب في رواية "نجمة إيليا"، تتركنا نور الجواد نمشي وراء "نجمة" وإحساسها بالفوضى الصامتة، وعلى الرغم من كل الأحداث المتصاعدة، إلا أن طفلا داخلها يلهو بقلم على الجدار، تخيل ماذا سيترك خلفه؟ تجيد الروائية الكويتية وصف مشاعر بطلتها بلغة رشيقة، وتدون ذلك الشعور الذي يشبه المزهرية، تتمايل على حافة طاولة، وتعلم بأن نجاتها شبه مستحيلة، لا شيء أمامها سوى الاستعداد للسقوط متهشمة، فهل الحل دائما في الهروب من الماضي أم المواجهة؟ كانت نجمة تخشى أن تدخل إحدى غرف منزلها، أو غرفة الماضي كما تسميها، وما تتضمنه من صناديق تحرم فتحها، وتكشف لنا لغزا حول نجمة وماضيها، وما يحدث معها، والرعب الذي يحيط بها، وما تخفيه عن صديقها إيليا. "نجمة إيليا" رواية كتبت بروح علم النفس، تكشف في نهايتها المشوقة عن مفاجآت، لتصنف بأنها من الروايات التي تقرأها فتخرج بشعور سعيد، تختمها الجواد بعبارة ملهمة، "ولادتنا الحقيقية ليست المدونة في دفتر الميلاد، ليست الصرخة الأولى التي ينتظرها الدكتور عند مقابلتنا للمرة الأولى وعلى وجهنا دهشة الحياة، نولد عندما نجد نصفنا الضائع، عندما نكتمل، عندما تنبض قلوبنا بلا خوف أو خجل، معلنة حالة الحب فينا".
مشاركة :