قال أبو عبدالرحمن: ذاتَ مَرَّةٍ داعبت شيخي (عبدالله ابن خميس) رحمه الله تعالى في إحدى الجرائِدِ؛ فقلت له: هجوتني أيُّها الشيخ عندما قلتَ عني: إنني (مُتعالِم)؛ لأنَّ العرَب لم تستعمل متعالماً بمعنى مُظْهِراً العلمَ ادِّعاءً؛ لأن القواميس لم تنقل ذلك؛ وإنَّما لها معنًى آخَرَ سأذكره بعد قليل إنْ شاء الله تعالى (؛ وهو الْمُظْهِرُ ما عَلِمَه لغيره؛ وهكذا تعالُم الناسِ فيما بينهم إذا تواتَرَ العلم؛ فإنَّ كلُّ واحدٍ يُظهر علمه للآخَرين).. ثمَّ قلتُ للشيخ: وأنا صادقٌ في هذه الدعوى، وهل تجد مثلَ صِدْقي إذا كنتُ جادّاً ؟!.. ثم عطفتُ في مقالاتٍ لي: إنها وإنْ لم تُسْمَع فهي لغة عربية مبينة؛ وعلى هذا فالشيخ ابن خميس استعمل (متعالماً) بالسليقة على وجه الصحة؛ ثم بيَّنتُ أنني سأشح ببرهاني على الدعويين مؤقتاً لأنظِر شيخي شهرين لعلَّه يجد البراهين، وما أردتُ بذلك (؛ولعل نيتي صادقة إن شاء الله) أنْ أمتحن شيخي في فقه اللغة؛ فقد كان ابن خميس أستاذي منذ بلغت الحلم: أحاكي أسلوبه المتوثِّب بالأرواح الذي ضَعُفَ في العهود الأخيرة، وصار الشيخ لا يوليه نفحاتِه الزياتيَّة، وعندما كَرَّم النادي الأدبي بالرياض شيخَنا ابن خميس لنيله الجائزة الكبرى: استغللتُ الموقف وأنا على المنبر بصفتي رئيسَ النادي بعده؛ فكنت أستجيش زياتيَّتَه وأستفزُّه ليتحدث؛ فأباهي به أستاذي الدكتور (إحسان عباس) رحمه الله تعالى؛ وآخرين غيره من الأقطاب كانوا حاضرين هذا التكريم؛ فقام الشيخ، ولم يرتجل كعادته، ولم يتلاعب بالبلاغة والمعاني كسليقته، وإنما قرأ سطوراً مكتوبة قليلة من غير نَفْسٍ.. وكان الشيخ يومها متوعكاً تثلثه العصا لا أرانا الله فيه مكروهاً [قلتها وهو حيٌّ رحمه الله تعالى]؛ فجرَّني أستاذي الدكتور (إحسان عباس) ونحن قائمون إلى المائدة وقال: أحرجك الشيخ !!.. ولكنني لم أسكت، فشرحتُ له الجَوَّ، وبينتُ له أنَّ جمالَ اللغة العربية ظل ثلاثين عاماً في عصمة الشيخ يميس كدلال الحسناء؛ فقال الدكتور الأستاذ: الأسلوب لا يُرَدُّ إلى أرذل العمر؛ فسكتُّ، وإلى الآن لم يفتح الله عليَّ بردٍّ يمكن أنْ أقوله.. ولكثرة ما كنت أتخذ الشيخ أسوةً: كان ذلك يغيظُ بعض أساتذتي في معهد شقراء العلمي، ولي صورٌ وانطباعات كثيرة؛ وقبل أنْ يكون الشيخ مديراً عاماً لرئاسة القضاة فيما أظن، وقد لقيته أول مرَّة بمملكة الشيخ حمد الجاسر الأدبية العلمية بـ(الْمَرْقب)، وكنتُ صغيرَ السنِّ والجسم؛ ولكنَّ طموحيَ أشدُّ كثافة؛ فكأنها من ثقافة أحلام اليقظة.. وكان الأستاذان يتغامزان بي وقد قدَّمتُ للشيخ حمد كتاباً ليقدم له؛ لأنني كتبتُ جملةً لـ (ابنُ بليهد) هكذا: (لبن) بشبك اللام بالباء، ولا أزالُ أحفظ قول الشيخ ابن خميس: (يا أخ محمد: الألف تكتب ولا تنطق).. وخرجتُ منهما وأنا مُضْمِر ألفاظاً لم أنطق بحروفها.. معناها: لَئِنْ أحياني الله لأسرنَّكما أو لأغيظنَّكما وَلأُزاحِمنَّكُما مسؤوليةَ هذه المملكة العلمية.. المهم أنني لم أقصد امتحان شيخي في فقه اللغة، وإنما أردتُ أنْ يكتب الشيخ رأيه؛ فيتخلل رأيه تقريظٌ لي مكتوب أسجِّله عليه في حياته وحياتي؛ ثم أقول للناس: (هاؤم اقرءوا كتابيه، فقد قرَّظني الشيخ كتابةً، وقلما قرَّظ إلا من هو في صف أستاذه).. ولكنَّ الشيخ فَطِنَ للمصيدة؛ فلاذَ بالصمت، ولم يبق إلا أنْ أسلِّط عليه أحد الصحفيين يجري معه مقابلة يدسُّ فيها سؤالاً عني؛ لأنني عنيت بإجازات العلماء وأسانيدهم في وقت متأخِّر، وحصلت على أسانيدَ وإجازاتٍ إلى البخاري وابن حزم وعبدالحق وابن حجر وغيرهم، ومَن ليست عنده إجازة كالشيخ ابن خميس؛ فسأحتفل بتقريظه؛ فإن لم تنْطَلِ الحيلة الأخيرة فسأُعلِن في مذكراتي أنَّ الشيخ حَسَنُ الثناء عليَّ في مجالسه الشفوية؛ وهذا أقل المستطاع؛ فأما البرهان الأول على الدعوى الأولى؛ وهو أنَّ العرب لم تستعمل متعالماً بمعنى مظهرِ العلم ادِّعاء فقد تقصَّاه الأستاذ (أحمد العوامري بك) في الجزء الرابع من مجلة مجمع فؤاد الأول للغة العربية سنة 1356هجرياً؛ وملخص رأيه: أنَّ الكُتَّاب يظنون أنَّ تعالم بمعنى أظهر ما عنده من العلم للفخر والمباهاة، والصواب عند العوامري: أنَّ التَّعالم هو علمُ الجماعة؛ فيقال تعالم الناس الخبر؛ لأنَّ المعاجم لم تزد على ذلك، ولو أردتُ الشغبَ لقلتُ للشيخ: قولك (متعالم) خطأٌ لغويٌّ؛ وحجتي مجمع اللغة العربية؛ فلماذا يا شيخ عبدالله تهجوني بكلمة ليست صحيحة في لغة العرب ؟!، ولكن محبتي للحق، وللشيخ عبدالله معاً وإنْ هجاني: جعلتني أُحِقُّ الحقَّ وأنتصف له، وأقول للشيخ: (أصبتَ في الاستعمال سليقة)؛ والدليلُ على ذلك هو البرهان على الدعوى الثانية؛ وهي أنَّ (المتمعلم) مَن تظاهر العلم، وأنَّ متعالماً بمعنى مُدَّعي العلم صحيحة وإنْ لم تنقل في القواميس، وعدم ما صَحَّحَتْهُ الأصول ليس حجة على خطئها؛ لأنَّ بعض المعاني لم تُون اكتفاءً بمعاني أمثالها، وبعضها لم يدون لأنَّ العرب لم تحتج إليه، ولو احتاجت إليه لما عدلت عن استعماله؛ وأما البرهان فهو أَنَّ كلَّ كلمة عربية في الوجود لها دلالتان لا دلالة واحدة لا تنفصل إحداهما عن الأخرى: الدلالة الأولى دلالة المادة المعنوية؛ وهو مدلول العين واللام والميم مهما تعددت الصيغ واختلفت الحروف قلة وكثرة.. والدلالة الثانية دلالة الصيغة كدلالة تَفَاعَلَ سواء أكانت المادة العلم، أم الجهل، أم النسيان، أم النوم.. إلخ.. وصيغة تفاعل تأتي لمعان كثيرة، ولكن يهمنا من معانيها هاهنا ما ذكره (أبو إبراهيم الفارابي)؛ وهو قوله: (ويجيىء تفاعَل على معنى إظهارك ما لست من أهله نحو قولك: تحالم، وتصامَّ، وتخارس، وتجاهل)، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان. ** ** وكتبه لكم/ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمِّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) -عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-
مشاركة :