الطفل يستوقفك أحيانا بأسئلة (تظنها في البداية سهلة وساذجة) حتى تكتشف أنها رائعة ومبدعة وأصعب مما تتوقع.. سبق أن قدمت محاضرة عن تقنيات الإبداع أشرت فيها إلى أن العباقرة يحتفظون بموهبة طرح الأسئلة الطفولية الساذجة حتى نهاية العمر.. أسئلة من مثل ما هي فائدة الشنب؟ لماذا السماء زرقاء؟ لماذا لم يخلقنا الله طيورا ونباتات؟ للوهلة الأولى ستضحك حين تسمع هذه الأسئلة من طفلك الصغير.. ولكن هل يمكنك الإجابة عنها فعلا؟ لو أخذت أسئلة طفلك بجدية لأصبحت عالما مشهورا مثل نيوتن الذي سأل نفسه سؤالا سخيفا (لماذا تسقط التفاحة إلى الأرض؟) أو مونغليفية الذي اخترع المنطاد حين سأل نفسه (لماذا يرتفع الهواء الساخن إلى الأعلى؟) أو مثل مندل الذي اكتشف علم الوراثة لأنه تساءل (لماذا تنمو البازيلاء بألوان مختلفة؟) ولأنني لست من فصيلة العباقرة عودت نفسي على التوقف عند تلك الومضات الصغيرة التي نخرج فيها عن الواقع ونسأل أنفسنا أسئلة طفولية ساذجة.. تعلمت الوقوف عند الأسئلة الخارجة عن المألوف والإصرار على معرفة الجواب (وضرب أمثلة شخصية في مقال قديم بعنوان: المعجزات الثلاث).. وقبل أيام فقط كنت أشاهد إحدى المحطات التلفزيونية حين لفت انتباهي قول الضيف "الملك سلمان رجل ذو مكانة في العالم الإسلامي"... ولسبب غير معلوم توقفت عند كلمة "ذو مكانة" وكأني أسمعها لأول مرة .. ما معنى ذلك من الناحيتين اللغوية والمعنوية؟ ماذا نقصد حين نصف أحدهم بأنه "صاحب مكانة" أو "مكانته كبيرة" أو "مكانته لا تسمح"؟ مثل الأب الكبير ستقول فورا الموضوع بسيط ولا يحتاج تعقيدا فجميعها مشتقة من كلمة "مكان".. سأتفق معك مبدئيا ولكن لاحظ أن لكل اشتقاق مفهوما مختلفا ومعنى جديدا.. فالمكان كما نعرف هو الموقع المحدود والمقصود، وبناء عليه يصبح المعنى الحرفي (للمكانة) هو الاستحواذ والتحكم بأكبر قدر من المساحة .. وهذا المعنى مناسب لإطلاقه على الملوك والسلاطين والأباطرة في العصر القديم (حيث كل شيء عرفا ملكا للملك أو السلطان).. وهذا المعنى الحرفي يذكرنا بالاشتقاق اللغوي "مكين" الذي يعني التحصن والثبات وصعوبة الاقتلاع من المكان بدليل قوله تعالى (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) كما تأتي بمعنى الغلبة والاستحواذ بدليل (الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة).. غير أن "المكانة" لا تتعلق بالضرورة بالمواقع أو المساحة الجغرافية كونها تتعلق أيضا بالاستحواذ على القلوب والعقول كأن نقول "للأم مكانة كبيرة في المجتمع السعودي" أو "للشيخ مكانة كبيرة عند أتباعه".. وكانت العرب تقول: "مُكن الرجل" بمعنى صار ذا منزلة رفيعة بين الناس.. وحين تريد التشديد على أهمية الشيء تربطه بالمعنى المادي فتقول "وهو من الشجاعة بمكان" أو "من الأهمية بمكان"، أو "من الضرورة بمكان".. أما المعنى الذي يغيب عن بالنا هذه الأيام فهو أن "المكانة" تأتي بمعنى المخالفة والاستقلالية والطريقة الخاصة في فعل الشيء بدليل قوله تعالى (اعملوا على مكانتكم إنا عاملون)... والآن ؛ هل أخبرك بما هو أهم من المكانة بمكان؟ .. حين يبرز في رأسك سؤال طفولي لا تغادر مكانك قبل أن تفكر فيه ملياً..