نقلت الاتهامات الجنائية «غير المسبوقة» بحق رئيس أميركي حالي أو سابق، الانقسام السياسي وحالة عدم اليقين، إلى مستوى متقدم، بل ومبكر في الآن نفسه، مع انطلاق الحملات الانتخابية التمهيدية، لدى الجمهوريين والديمقراطيين، على حد سواء. وتؤكد لائحة الاتهام الموجهة إلى الرئيس السابق دونالد ترمب أن مشكلاته القانونية ستكون النقطة المحورية في المنافسة التمهيدية الرئاسية للجمهوريين، مع احتمال أن يضطر إلى التنقل بين قاعات المحاكم ومسار الحملة الانتخابية. ومن المرجح أن تكون أيضاً عنصراً مركزياً في الانتخابات العامة لعام 2024، بغض النظر عمن هو على ورقة الاقتراع، مما يزيد من انقسام دولة مستقطبة سياسياً. وتظهر الاستطلاعات أن الاتهامات الموجهة إلى ترمب لإساءة التعامل مع وثائق سرية، تأتي في الوقت الذي ينظر فيه أعضاء كل حزب سياسي بالفعل إلى الآخرين، على أنهم تهديد للأمة. وسيرى الجمهوريون القضية على أنها رئيس ديمقراطي يضطهد شخصياتهم القيادية، مما دفع الكثير من ناخبي الحزب الجمهوري إلى المطالبة برد قوي من مرشحيهم الرئاسيين، في حين أن الديمقراطيين سينظرون إلى الجمهوريين على أنهم مجرمون مزعومون. لا تأثير على شعبيته بيد أن تلك الاتهامات، طرحت الكثير من التساؤلات عن تداعياتها على المرشح الأول على قائمة الحزب الجمهوري. وأمام اتهامات فيدرالية وجنائية عدة، يضع الرئيس الجمهوري السابق البلد أمام احتمال دخول مرشح فائز، البيت الأبيض وهو لا يزال يواجه اتهامات، أو إدارة الحكومة من السجن، في سابقة نادرة في التاريخ الأميركي. وبدلاً من رفضه فكرة الانسحاب من السباق الانتخابي، عمد ترمب إلى تصعيد خطابه وهجماته على «الدولة العميقة»، واتهام خصومه السياسيين «الفاسدين» بالتدخل الانتخابي، «فاحصاً» في الوقت نفسه خصومه، وولاء جمهوره. فهو يدرك تماماً مكامن قوته، التي تزداد يوماً بعد يوم، بعد كل اتهام قضائي يتعرض له. وهو ما تثبته استطلاعات الرأي المتتالية. في استطلاع أجرته أخيراً مؤسسة «يوغوف»، اعتبر نصف المستطلعين فقط، أن تزوير السجلات التجارية لإخفاء مدفوعات مالية لنجمة إباحية يعد «جريمة خطيرة»، وهي القضية التي يواجهها ترمب في مانهاتن. غير أن ثلثي المستطلعين قالوا الشيء نفسه بشأن نقل أسرار حكومية من البيت الأبيض وعرقلة الجهود لاستعادتها. وتبلغ النسبتان 28 في المائة و42 في المائة على التوالي بين الجمهوريين، وهي فجوة تشير إلى أن قضية ترمب الأخيرة، يمكن أن تمثل نقطة تحول في حملته للانتخابات التمهيدية. تداعيات القضية على الجمهوريين وعلى الرغم من أن الاتهام الأخير يسمح لمنافسي ترمب الأساسيين، حاكم فلوريدا رون ديسانتيس ونائب الرئيس السابق مايك بنس وآخرين، بتوجيه الانتقاد والقول إن المرشح الأوفر حظاً غير لائق بالمنصب، غير أنهم حاذروا المجازفة بمعاداة القاعدة الموالية لترمب، و«اصطفوا» للدفاع عنه «مبدئياً»، سائرين على خيط رفيع. في خطاب ألقاه الجمعة في ولاية نورث كارولينا الشمالية، قال حاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، الذي تضعه الاستطلاعات في المرتبة الثانية بعد ترمب، إنه بصفته محامياً في البحرية، يقترح أنه كان يجب توجيه الاتهام إلى كل من ترمب وهيلاري كلينتون، أو لا أحد منهما. وأضاف: «هل هناك معيار مختلف لوزير خارجية ديمقراطي مقابل رئيس جمهوري سابق؟ أعتقد أنه يجب أن يكون هناك معيار واحد للعدالة في هذا البلد. دعونا نفرضها على الجميع ونتأكد من أننا جميعاً نعرف القواعد». وبعد انتقاده قضية وزارة العدل من دون إبعاد ترمب عنها، قدّم دفاعاً مخادعاً إلى حد ما عن الرئيس السابق، محاولاً تجنب إغضاب جمهوره، كي لا يخسر ولاءه، في حال تطورت الأمور. وسأل عما كان سيفعله سلاح البحرية به لو أنه أخذ وثائق سرية أثناء الخدمة العسكرية. وقال: «كنت سأواجه محاكمة عسكرية في غضون دقيقة في نيويورك». حتى نائبه السابق مايك بنس الذي تضعه الاستطلاعات في المرتبة الثالثة، رفض الإجابة والتعليق على أسئلة الصحافيين يوم الجمعة، بعد صدور لائحة الاتهام التي أعلنها المحقق الخاص جاك سميث. وقد يكون السبب أن الجميع يسعى للحفاظ على الهدوء، حتى يتم استبعاد ترمب من السباق من خلال مزيد من الاتهامات المتوقعة في الأشهر المقبلة. ويواجه ترمب تحقيقاً فيدرالياً آخر لدوره في أحداث الكونغرس في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021. وتتوقع تقارير إعلامية أن توجه إليه اتهامات بالابتزاز والتآمر في ولاية جورجيا في أغسطس (آب)، على خلفية محاولته قلب نتائج الانتخابات هناك. ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية، عن خبير العلوم السياسية في جامعة فرجينيا لاري ساباتو، قوله إنهم «يأملون في استبعاد ترمب بنهاية الأمر من السباق من خلال عدد من الاتهامات». وأضاف: «هذا كل ما في الأمر. إنها استراتيجيتهم. لن يفعلوا شيئاً». لكن يعتقد على نطاق واسع أن كل الاتهامات الجنائية الفيدرالية، لن يكون لها تأثير يذكر على الملاحقات «غير الفيدرالية» التي يتعرض لها ترمب. والأخيرة، هي التي تثير قلقه المباشر، ويتعلق ضررها بتأثيرها المباشر على حملته للفوز بترشيح الحزب الجمهوري في المقام الأول. لماذا قاتل بشدة للاحتفاظ بالوثائق؟ على الرغم من أن لائحة الاتهام الأخيرة المكونة من 37 تهمة، تقدم بعض التلميحات المحتملة، عن مخالفته القوانين الفيدرالية جراء احتفاظه بالوثائق السرية، وعرقلة جهود الحكومة لاستعادتها، لكنها لا تثبت أن الرئيس السابق كان لديه هدف يتجاوز مجرد امتلاك المواد. وشكّل تعيين القاضي إيلين كانون، المفاجئ، ليتولى القضية في ميامي، انتكاسة محتملة للمدعين العامين، ما قد يعزز من احتمال نجاة ترمب من تهمة «التجسس» و«تعريض الأمن القومي للخطر». فالقاضي البالغ 42 عاماً، الذي عيّنه ترمب نفسه في فلوريدا، صدم الخبراء القانونيين عبر خطوط الانقسام الآيديولوجية العام الماضي، من خلال التدخل في التحقيق وإصدار أحكام لمصلحة ترمب. وعلى الرغم من ذلك، تعرض للتوبيخ من قبل محكمة استئناف محافظة. ولم يعرف بعد ما إذا كان الحظ هو الذي خدم ترمب، عبر تعيين القاضي كانون، خصوصاً أن تعيين القضاة في ميامي، يتم بشكل عشوائي، أم أن «شيئاً استثنائياً» قد حصل. لكن اللغز الوحيد القائم يبقى: «لماذا قام ترمب بأخذ تلك الوثائق، وقاتل بشدة للاحتفاظ بها؟»، وفي حين أن العثور على دافع قد يكون مفيداً بالتأكيد للمدعين العامين، إذا انتهى الأمر بترمب في المحاكمة، فقد لا يكون ذلك ضرورياً في إثبات العناصر القانونية للقضية المرفوعة ضده.
مشاركة :