ذكر القيصر بطرس الأكبر مؤسِّس الإمبراطورية الروسية في البند الثامن من وصيته التي نُشرت عام 1725: لا تنسوا العمل الدائم للسيطرة على البحر الأسود، والزحف جنوباً للاستيلاء على القسطنطينية، لأن مَن يسيطر عليهما يحكُم العالم ( كتاب روسيا وأرثوذكس الشرق، رؤوف سنو، ص 274). وما زال في ذاكرة الروس: أن القسطنطينية عاصمة البيزنطيين التاريخية والتي دخلها السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1453؛ يجب أن تعود مقراً حُراً للكنيسة الشرقية. تلك الأحداث التي طواها التاريخ، تفعل فعلها في المحطات الصعبة، وتعود الأوهام والأحلام الإمبراطورية لتتغذَّى من معجن الأساطير القديمة، وبأدواتٍ وتقنياتٍ عصرية جديدة. لا ينفصل ما يجري في شمال سوريا عما جرى في أوكرانيا وتحديداً في جزيرة القرم في ربيع العام 2014 فبسط السيادة الروسية على الجزيرة التي تقع في عمق مياه البحر الأسود، يُشبه ما قامت به الإمبراطورة الروسية آنا اوفانوفا في العام 1736 عندما احتلت الجزيرة وطردت سكانها الأصليين من التتار وأبعدتهم إلى تركيا. والهزيمة التي لحقت بالروس في العام 1855 على يد الأتراك، وبمساعدة البريطانيين والفرنسيين، ردوا عليها بالهجوم الواسع على العثمانيين في العام 1877، ووصلوا إلى ضواحي القسطنطينية. وتهديدات روسيا لتركيا اليوم إذا ما اجتاحت قواتها سوريا تُشبه تهديدات الأمس، ولكن بأدوات قتالية أكثر خطورة. التجاذبات الروسية التركية تفاقمت منذ إسقاط المقاتلات التركية لطائرة السوخوي الروسية في 24 /11/ 2015 على الحدود مع سوريا. وتكاد التوترات التي تحصل اليوم في شمال سوريا؛ تُهدِّد المنطقة برمتها، إذا لم نقُل العالم وتُنبئ بنشوب حرب عالمية ثالثة؛ على ما قال حرفياً رئيس وزراء روسيا ديمتري مدفيديف. جيوبوليتيك المساحة المترامية التي تمتد من أوكرانيا مروراً بالقُرم وسواحِل البحر الأسود والمضائق التركية وصولاً إلى شواطئ طرطوس السورية على البحر المتوسط؛ حسّاسة وخطِرة، ولا يمكن تجاهل أهميتها في سياق تصارع المصالح الإقليمية والدولية، وفي الوقت ذاته؛ لا يمكن التسليم بالسيطرة عليها من قبل طرفٍ دوليٍ، أو إقليمي واحد. تلعب روسيا بالأوراق التي تمتلكها لتحصين نفوذها في المنطقة، وفي تدخلاتها العسكرية شيءٌ من المغامرة، يمكن أن يُسبِبَ لها متاعِب، أكثر مما يمكن أن يأتي لها بالفوائد، وربما تكون قد وصلت إلى نقطة اللاعودة. فمجهودها العسكري إلى جانب النظام في سوريا؛ مُكلف مالياً وسياسياً. والأعباء المالية تأتي في ظروف غير مُلائمة، لأن الاقتصاد الروسي يعاني صعوبات كبيرة، بحيث وصل سعر صرف الدولار الأمريكي الواحد إلى 90 روبل روسياً (وهو رقم غير مسبوق) وسط تدهور أسعار النفط والغاز اللذين تعتمد عليهما روسيا في تحصيل العملات الأجنبية. أما التكاليف السياسية للتدخُل الروسي؛ فهي باهظة أيضاً، لأن موسكو ستكون مُتعبة جداً إذا ما استمرت بسياستها، لأن صداقاتها العربية وربما الإسلامية عامةً (ما عدا إيران) ستكون مُعرَّضة للضغوط، لاسيما مع مصر ودول الخليج وهؤلاء كانوا يحرصون على تطوير العلاقة مع روسيا، حتى بعد تدخُلها العسكري في سوريا. أمَّا تركيا؛ فهي تتخبط بفوضى سياسية وأمنية كبيرة. وبعض الخطوات التي قامت بها في الماضي القريب لم تكُن لصالحها؛ فهي استعدَت مصر، واستفزَّت روسيا بإسقاطها السوخوي، ويبدو أنها لم تقرأ جيداً مسار التواصل بين إدارة أوباما الأمريكية وقادة الكرملين، وقد استفاد من سياسة التردُّد التركية بعض الإرهابيين في داعش وتمرَّدت على أنقرة مجموعة من المنظمات الكردية. وتركيا لا تستطيع بمفردها رد المخاطر التي تتهددها، ولا يبدو أن حلفاءها الغربيين مُتحمسين لمساعدتها، خصوصاً في مواجهة الروس. تغيير التوازنات السياسية في الجنوب الأُوراسي؛ مسألةٌ في غاية الصعوبة، وتحمل أخطاراً كبيرة في آن. كما أن الطموحات في حسم المعركة في سوريا لمصلحة النظام هدفٌ صعب المنال، وهو إخلالٌ بموازين القوى في المنطقة، لا تسمح فيه تركيا، ولا غيرها من القوى الإقليمية. مناورات" رعد الشمال " في المملكة العربية السعودية ليست معزولة عن التطورات الساخنة في الشرق الأوسط برمتهِ، وواضح؛ أن القوى التي لا تستسيغ التدخُل الإيراني السافر في الشؤون العربية؛ أخذت قراراً بوقف التراجعات العسكرية والسياسية التي حصلت بغفلةٍ منها في أكثر من دولة، وعلى وجه الخصوص في سوريا واليمن. الأهمية الاستراتيجية للمنطقة العربية والجنوب الأوراسي لا تتحمل هزيمة لأي من القوى الإقليمية، أو الدولية الكبرى. والتداخُل العرقي والديني الموجود، يُفاقم هذه الحساسية. إضافة إلى ذلك؛ فإن اعتبارات الجيوإكونوميك المرتبطة بموضوع النفط والغاز، ضاعفت من أهمية هذه البُقعة من العالم. فالمخزونات النفطية والغازية الواعدة في عدد من الدول ومنها سوريا وخطوط جرّ الطاقة التي تمرُّ في بلدان ومياه المنطقة؛ فيها مصالح عُليا للدول ومنها روسيا ولا يمكن الاستخفاف بها. وهذه العوامل لم تكُن موجودة إبان الحقب السابقة من الصراعات، لاسيما في القرن التاسع عشر، وفي مرحلتي الحرب العالمية الأولى والثانية.
مشاركة :