أمبرتو إيكو الموت فعل لا يموت

  • 2/27/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

في ديوان غزل الطريدة يقول الشاعر إبراهيم بوهندي: (لا أظن الموت إلا لغة أخرى لفعل لا يموت)، هكذا نجد المبدعين والمفكرين والمنظرين والفلاسفة والذين خدموا الإنسانية بنتاجهم المتعدد والمختلف بمجالاته وتوجهاته ونظرياته وإيديولوجايته بقوا وسيبقون على مدار الحياة واستمرار الإنسانية، حيث ما أنتجوه وقدموه يكون زاداً معرفياً مهماً في حياتنا اليومية والمستقبلية الاجتماعية والسلوكية والمهنية والثقافية، وحين عنوت المقالة بما جاء به الشاعر فإنني أرمي إلى أن هذا الفعل الذي يطرأ على الإنسان فجأة من دون سابق إنذار غير المرض إن كان، وما أكثر هذا الفعل الذي كثر حضوره المفاجئ مما جعل الناس تنفر من سماع المفردة وحركة فعلها. وما فجعنا به على مدار عامين ميلاديين رحيل عدد من الكتاب والمفكرين والمبدعين عرباً وأجانب، كانت لهم صولات ثقافية مهمة على الساحة الدولية في مجال تخصصهم، وها نحن نفاجأ قبل أيام برحيل برحيل ملك الصحافة العربية (محمد حسنين هيكل) الذي بدأ صحفياً عادياً وبسيطاً إلى أن يكون ذا شهرة عالمية، إذ طوال حياته الصحفية والمهنية أعطى المكتبة العربية والعالمية ما يملكه من معلومات ووثائق على شكل كتب ومقالات ومقابلات، وحقق حلما لايزال الصحفيون يحلمون بما وصل إليه، ولا أتصور صحفياً عربياً يرغب أن يكون بارزاً لم يقرأ له، ولكن ماذا عملت الصحافة العربية عامة ونحن في البحرين تجاه هذا الخبر؟! وبخاصة جمعية الصحفيين، كما فجعنا أيضا نحن المهتمين بالدراسات النقدية والثقافية والأدبية عامة والسردية على وجه الخصوص رحيل أحد فلاسفة السرد في عصرنا هذا، هو الروائي والمفكر والمنظر الفيلسوف الإيطالي (أمبرتو إيكو) الذي أثرى المكتبة الأدبية والثقافية والنقدية العالمية بالكثير من فكره وعلمه وإبداعاته المختلفة، وإن كانت شهرته تفوق الأمصار والأمكنة والساحة الأدبية فلربما هناك من لا يعرف هذا الناقد الكبير بسبب التخصص أو عدم متابعة المجال الذي هو فيه. كتب أمبرتو أيكو أعمالاً روائية، ونقدية، وتنظيرية في السرد والسيميائية وفي الترجمة والتاريخ، فضلاً عن مشواره التدريسي في الجامعات الأوروبية والأمريكية، كتب: اسم الوردة التي ذاع صيتها بلغات عدة، كما هي أيضا رواياته الأخرى: جزيرة اليوم السابق، بندول فوكو، مقبرة براغ، باودولينو، الشعلة الخفية للملكة لونا، كما كتب في النتظير والثقافة السردية، مثل: تأملات في السرد الروائي، اعترافات روائي ناشئ، آليات الكتابة السردية، ست جولات (نزهات) في غابة السرد، بالإضافة إلى الكتب الأخرى كالقارئ في الحكاية، حدود التأويل، الأثر المفتوح، الفن والجمال في علم الجمال القروسطي، أن تقول الشيء نفسه تقريباً، وهو كتاب مهم جداً في طبيعة العلاقة بين النص الأصلي والنص المترجم، ودور المترجم ولغته وما ينبغي فعله وهكذا. رحل أمبرتو إيكو تاركاً لنا هذه الذخيرة الثقافية العميقة.. رحل عن دنيانا بعد ما مل منها ورأى ما فيها من التناقضات والحروب والفساد، والتشبث بمبدأ ما من أجل الحصول على ما تبتغيه النفس البشرية.. فضل الرحيل مسافراً لعالم أثيري لا نراه عالماً نحن بني البشر، ولكن هذا لاعالم يرى فيه ما يكون من قيم الإنسانية من التسامح ونبذ كل العنف وقمع الحروب وعنفوان الآلة القاتلة التي تدمر ولاتزال عوالم الحلم والعمل والمستقبل.. رحل عن محبيه من دون أن يودعهم، تاركاً إياهم حائرين بين أن يدرفوا الدموع ويتركوها تنهمر حسرة وألماً لهذا الفقد، وبين أن يحبسوها في أحداقهم، وهم يتأملون في تبئيراته المتنوعة وزواياه المختلفة التي كانت تشع من بين نظاراته الطبية العاكسة شريط التفكير عنده؟ إن رحيله ورحيل من سبقه كرولان بارت، وجاك دريدا، وبول ريكور وغيرهم من علماء الفكر والكلمة والتأويل والتفكيك، هو حسرة لكل المهتمين بالكتابة عامة والسردية على وجه الخصوص لما لهؤلاء من دور فاعل وكبير وعميق في تكوين الكتاب والمبدعين والدارسين الذين كان لهم الرغبة والطموح ليكون كتاباً بأي شكل إبدعي أو نقدي. حيث ما تركه هو ومن سبقه من ثروة علمية وثقافية وفكر هي قوت يومي لنا نحن المهتمين بالكتابة، مهمة لنا ولكتاباتنا لما لها من دور في تأصيل تطلعاتنا الكتابية الإبداعية والنقدية، ولشذيب أعمالنا المختلفة، إذ كلما بدأت أيها المتابع لأعمال إيكو بقراءة كتاب من كتبه فإنك تصاب بالدهشة والاستغراب من هذه اللغة التي ينسج بها عالمه السردي أو الآخر، ومن حجم المعلومات والمعارف وطرائق التفكير وزوايا النظر إلى ما يقوله من جهة، وإلى ما يقرأه المتلقي من جهة أخرى، وما سيكتبه بعد القراءة من جهة ثالثة. ومن لم يقرأ أي كتاب لأمبرتو إيكو سرداً أو تنظيراً، فإحيله إلى كتاب مهم جداً وبخاصة كتاب الأعمال السردية (رواية وقصة)، وهو كتاب (اعترافات روائي ناشئ)، ليعرف تمام المعرفة هذا الرجل حينما يكتب عن نفسه، وعن تاريخه الثقافي والمهني، وعمله في صنع عالم روائي متخيل، وكيف يمارس دوره الحقيقي بوصفه روائيا ومثقفا وباحثا وقارئا في وقت واحد. فليت نجعل من كتبه أحد روافدنا التي ترفد الحراك الروائي في البحرين، وبالتحديد الكتاب الشباب والشابات الذين يسعون إلى الشهرة السريعة، فعليهم أن يتأملوا كيف يبقى سنوات وسنوات في كتابة عمل روائي واحد، لا أن يكتب العمل في شهرين أو ثلاثة كما هو عند البعض، فأقل فترة كتب فيها إيكو رواية هي (اسم الوردة) بحسب ما يقول وهي ثلاث سنوات، ولكنه يؤكد أيضا أن كل مصادر ومراجع الرواية كانت لديه في أثناء إعداده لأطروحة الدكتوراه، أي جمع المادة ربما في أكثر من ثلاث سنوات أخرى قبل كتابة الرواية، أما الأعمال الروائية الأخرى فبعضها وصل إلى ثماني سنوات، هكذا يخرج العمل رائعا مترابطا ترى فيه المكونات والتقنيات والجماليات واللغة وغيرها التي تستفزك بالمزيد من البحث وطرح السؤال حول ما نحن فاعلون، وهنا يشير مترجم رواية جزيرة اليوم السابق قائلا إذا استطاع قارئ الرواية أن ينهي مئة صفحة من الرواية فسوف يستمر في قراءتها، وهذا يعني أن الكاتب لا يكتب كلمات مصفوفة وإنما يكتب فكراً وثقافة في شكل روائي، وهو ما نتمناه أن نراه في أعملنا الروائية، وهنا لا أعني الكل وإنما البعض. إنك لم ترحل وإن كان جسدك قد غيبته عنا.. ستبقى موجوداً في كل هواء يخرج بين نقاط حروف كتبك.. ستكون بين تلك الأفكار التي تناقشها الأقلام والدراسات الأكاديمية.. سيكون لك نصب في قلوب محبيك ومحبي عملك السردي والنقدي.. نم ولا تفكر أن جدران قبرك ستكون ساكنة.. فإنها تئن بأنين محبيك.. نم بين تلك الأزهار التي هربت من الحدائق لتتدثر بقماش جسدك.. ضع نظاراتك جنب كتاب كنت بالأمس تقرأه ولم نتنه منه بعد فإن هذه النظارات سوف تواصل القراءة لتبحث عما كنت تنتظره بين سطور هذا الكتاب.. نم يرحمك الله. ولا شك أن الجامعات التي عمل فيها والمؤسسات التي خدمها ستقف متحاورة مع منجزه العظيم، وعمله المتعدد، ولكن هل ستفعل الجامعات والمؤسسات الثقافية عندنا الشيء نفسه؟ هي أمنية أتمنى حدوثها.

مشاركة :