إعداد: محمد إسماعيل زاهر لا آيس من رحمة الله ولو نظمت ذنوباً مثل الجبال سوداً، كأنهن بنات جمير، ووضعتهن في عنقي الضعيفة كما ننظم صغار اللؤلؤ فيما طال من العقود، يقول أبو العلاء المعري في الفصول والغايات، تلك الشخصية الإشكالية والقلقة والمعقدة، ذلك المفكر والشاعر، واللغوي الذي يعرف كل ما نطقت به العرب على حد تعبير ابن الجوزي، حير المعري الكثيرين من الذين كتبوا عنه، سواء تتبعوا سيرة حياته القلقة، أم قرأوا أعماله المؤثرة والباقية، المعري كما يقول إدوار أمين البستاني في كتابه عنه: كان مثله كمثل رجل وضع على نافذته مصباحاً لينظر في ضوئه طلوع النهار، والدنيا ظلام، والوقت ليل. لا يبدأ الإحساس بهذه الشخصية المتوترة من قراءة أشعارها وكتبها التي تطوف بنا في حقول شتى، ولا ينتهي عندما نتوقف أمام إحدى مقولاته المؤثرة والدالة والمعبرة عما يجول بداخلنا أحياناً من حزن أو تشاؤم، وتدفعنا عبارة في هذا الكتاب إلى التأمل، وجملة في ذاك إلى الاستمتاع بها وحفظها، نردد هذا البيت، ونستعيده في أوقات التذمر، وربما التمرد أو السخرية المريرة، كل هذا لا يعبر عن مدار استيعابنا للمعري، بداية ونهاية، المعري أوسع من ذلك كله، بشخصيته وسيرته. أوصى المعري أن يُكتب على قبره، ما ردده الكثيرون بعده هذا ما جناه أبي عليّ/ وما جنيت على أحد، وأقيم قبره في ساحة من بيوت أهله، وعلى الساحة باب قديم، وصفه ابن خلكان في وفيات الأعيان بعد مئتي عام بالقول: قديم وهو على غاية ما يكون من الإهمال، وتُرك بمصالحه، وأهله لا يحتفلون به، هذا القبر الذي وقف عليه ثمانون شاعراً يرثون المعري ويرددون: إن كنت لم ترق الدماء زهادة/ فلقد أرقت اليوم من جفني دما. عاش المعري في معرة النعمان في سوريا بين عامي 363 و449 هـ، أي امتدت حياته على مدار الحقبة الواقعة بين القرنين الرابع والخامس الهجريين، ولقب برهين المحبسين، العمى والبيت، حيث اعتزل الناس بعد عودته من رحلته إلى بغداد التي بدأها في عام 398 أو 399 وأمضى بمدينة السلام ما يقرب من عامين كتب خلالهما الكثير من قصائد سقط الزند. لكن لماذا يسافر المعري إلى بغداد، تلك التي وصفها الكثيرون آنذاك بحاضرة الدنيا، متحملاً مشاق السفر، وبخاصة أنه لن يستطيع رؤية تفاصيل تلك المدينة المبهرة، يقول في إحدى رسائله: تلك البلاد مكان دار الكتب بها، وفي مدة وجوده في بغداد اتصل بالشعراء والأدباء وحلقات العلم. في الرابعة من عمره أصيب المعري بالجدري وهو السبب في فقدانه للبصر، ولم يتذكر من الألوان إلّا الأحمر، ويذكر القفطي على لسانه وكل ما أذكره من الألوان في شعري ونثري إنما هو تقليد واستعارة منه، حيث أُلبس في مرضه ثوباً مصبوغاً بالعصفر. تلقى العلم في طفولته من خلال سفره إلى حلب، حيث درس على محمد بن عبدالله بن سعد النحوي، راوية المتنبي، وربما أدي ذلك إلى افتتان المعري بالمتنبي، وتعصبه له، ففي جلسة له مع المرتضى، ظل الأخير ينتقص من قدر المتنبي، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله: لك يا منازل في القلوب منازل.. لكفاه فضلاً وشرفاً، ويتحدث البعض عن قيام المعري برحلات أخرى لطلب العلم قبل رحلته الأخيرة إلى بغداد، حيث يشير القفطي مثلاً إلى سفره إلى طرابلس واللاذقية وأنطاكية. أعمال خالدة تابع المعري في عزلته ببيته الكتابة والتأليف، وعندما كان يحين موعد طعامه ينهض من مجلسه وينزوي في سرداب حتى لا يراه أحد، وهو يأكل، عاش وحيداً على وقف يأتيه منه في السنة ثلاثين ديناراً، يجعل نصفها لخادمه، والنصف الآخر لمصروفاته. في مرضه الأخير يصف المعري ما حل به قائلاً: لم يبق فيه بقية، يقصد نفسه، لأن يسأل ولا أن يجيب، لأن أعضاءه متخاذلة، وقد عجز عن القيام في الصلاة، فإنما يصلي قاعداً، الآن علت السن، وضعف الجسم، وتقارب الخطو، وساء الخلق، وعطلت رحى لم تكن تجعجع، لكن تهمس... صار لفظي من أجل ذلك مشيناً، وجعلت سين الكلمة شيناً، فلم يفهم مني سامع ما أقول، فإن وقع يوماً من الدهر إليه شيء مما أمليه، فوجد فيه السينات شينات، فليعلم أن ذلك لما ذكرت، وأن الذي كتب سمع ولم يفهم، بعد ذلك مرض المعري لمدة ثلاثة أيام وتوفي. يذكر العديد من المؤرخين مؤلفات كثيرة للمعري، ضاع معظمها، كما يذكر القفطي، إثر تعرض المعرة لغارات الروم في القرن الخامس الهجري، وربما يكون القفطي نفسه أول من أورد ثبتاً بمؤلفات المعري، ويبلغ عدد الكتب التي ذكرها خمسة وخمسين كتاباً، منها ديوان الرسائل الذي يضم ستة مصنفات مكتوبة في أربعة آلاف ومئة وعشرين كراسة، ولعل اللزوميات وسقط الزند ورسالة الغفران والفصول والغايات أشهر أعمال المعري الباقية والمنشورة. في اللزوميات يكرر المعري في القافية حروفاً لا يُفرض تكرارها عادة في قواعد العروض، يقول: القافية في هذا الكتاب تلزم لها لوازم لا يفتقر إليها حشو البيت، ورتب قصائد الديوان على حسب حروف الرويّ ترتيباً أبجدياً، ويتابع: وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كلف: الأولى أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أنه يجيء رويه بالحركات الثلاث والسكون بعد ذلك، والثالثة أنه لزم مع كل رويّ فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف، وتدور أشعار الكتاب حول التأمل والتفكر، وكان مدار بحث الكثير من الدارسين حول أفكار أبي العلاء، والحديث حول معتقده وشكوكه. ويتكون سقط الزند من ثلاثة آلاف بيت، ويعتبره البعض من أعذب وأرق ما قاله المعري، وأطلق عليه هذا الاسم لأن السقط أول النار الخارجة من العود، الزند، الذي يُقتدح به، وقدم المعري لديوانه شرحاً أسماه ضوء الزند، فضلاً عن الكثير من الشروح التي كتبها الآخرون. في الفصول والغايات كتب المعري مقاطع مسجعة موزعة على حروف المعجم، وهو أول كتاب ألفه في عزلته بعد عودته من بغداد، وشرح غريب الكتاب في السادن، كما فسر رموزه في إقليد الغايات. أديب ساحر أمّا كتابه الأشهر رسالة الغفران فهو إجابة عن أسئلة وجهها إليه ابن القارح، وقد سميت بهذا الاسم نظراً لكثرة وجود كلمة الغفران ومشتقاتها في الكتاب، وللمعري العديد من الكتب الأخرى، مثل رسالة التذكرة، ملقى السبيل، رسالة الهناء، زجر النابح... وغيرها. يلاحظ القارئ أن رسالة الغفران برغم ما يقال من أسباب تأليفها وأغراض المعري من وراء ذلك، نقد أدبي ممتع يوجهه أبوالعلاء إلى الشعراء بطوائفهم كافة، فمن نقد الروايات والتثبت من صحة نسبتها، إلى نقد المعاني في مطابقتها للمقام الذي قيلت فيه، إلى نقد لغوي، إلى نقد لطبائع الشعراء، إلى نقد لأساليبهم، من كل هذه المفردات يُشيد المعري معماره الأدبي الخاص، بل شديد الخصوصية الذي يسرده من خلال قالب قصصي ممتع، معمار لا يقل في إمتاعيته كل من درس المعري أو قرأه باحثاً عن أسئلة تتعلق بمسائل فكرية ووجودية، اشتهر الرجل بإثارتها، في رسالة الغفران نشعر بأننا في صحبة المعري، ليس لنشاهد ما كتبه عن الجنة والجحيم، لكن أيضاً لنعرف آراء الرجل في الأدب. يشك المعري في نسبة كثير من الشعر، مثل ما ينسب إلى امرىء القيس، من شعر يدل أسلوبه على أنه صيغ في غير أيام الجاهلية، وما ينسب إلى النابغة من أبيات مروية عنه، ومن خلال حوارات بين ابن القارح والشعراء، وعبر توزيع الشعراء بين الجنة والجحيم، تتحول رسالة الغفران إلى قطعة أدبية ساحرة، بل تلخص أفكار المعري وتوجهه، وتتماهى معه. وفي موازنة بين أبي نواس والمعري، يقول أدونيس: الحياة كما يراها أبونواس، تبدأ اليوم والآن، وهي عند المعري تبدأ غداً وبعد الموت، إنه يفتح في أعماقه جحيماً يهبط فيه، يحاور الموت ويصادقه. القلق والتشاؤم هو السمة التي يمكن أن يصف بها قارئ المعري هذا الرجل، الذي يقول: وهل يأبق الإنسان من ملك ربه/ فيخرج من أرض له وسماء. يلخص طه حسين في كتابه مع أبي العلاء في سجنه شخصية صاحب رسالة الغفران بالقول: أبوالعلاء قد هداه عقله إلى أن لهذا العالم خالقاً، وإلى أن هذا الخالق حكيم، وهو إذا تحدث عن هذا الخالق الحكيم تحدث عنه في لهجة صادق يظهر فيها الإخلاص واضحاً جلياً، وبعد ذلك يشير طه حسين إلى مأساة المعري بعدم فهم هذا الأخير، بالرغم من إيمانه، للحكمة السائدة في العالم، وعجزه عن فهم هذه الحكمة، هو الذي يضنيه ويعذبه أشد العذاب. تحدث البعض عن فقدانه للبصر مبكراً وأنه السبب في نزعته التشاؤمية والسوداوية، وأشار آخرون إلى دمامة وجهه، وهناك من تناول تأثير وقع وفاة أمه عليه، وتحمل سيرته الكثير من المواقف المؤثرة، فعندما اختلف مع المرتضى في مجلس هذا الأخير في بغداد حول المتنبي، أمر المرتضى خدمه بسحب المعري من قدميه إلى الخارج، وعندما وقف بباب علي ابن عيسى الربعي، أحد أئمة اللغة في عصره نادى عليه قائلاً: ليدخل الإصطبل، وهو الأعمى بلغة أهل الشام آنذاك، وعندما ذهب ليعزي في الشريف الطاهر في بغداد تخطى بعض وجهاء القوم، ما دفع أحدهم إلى سبابه بأقذع الألفاظ، كل هذا، فضلاً عن تقلبات عصره السياسية والاجتماعية. ظل المعري مثيراً للجدل في أثناء حياته، وبعد مماته، وحتى الآن، ذلك الرجل لم يتزوج وترك أكل اللحم، حتى قيل إنه لم يأكل اللحم لمدة 45 سنة، ولا ما ينتجه من مشتقات، ولا يلبس من الثياب إلّا الخشن، ومزج بين التقشف والتشاؤم بقوله محدثاً نفسه: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلّا من هذه الأجساد، وكتب الآلاف من الكراسات وامتد تأثيره في قوس واسع لا يبدأ من التنوخي والخطيب التبريزي، ولا ينتهي بطه حسين، وبنت الشاطئ، مروراً بدانتي في الكوميديا الإلهية.
مشاركة :