تهل علينا أيام "ذي الحجة" العشر المباركة، ويشتعل الحنين وذكرى الحج والزيارة ويهفو الشوق لرحاب الحرمين المشرفة وإلى التلاقي مع أطياف المسلمين المحبين القادمين من بقاع الأرض المختلفة، يتدفقون إلى المشاعر المقدسة حجاجا لبيت الله الحرام، والمتوقع أن يتجاوز عددهم 2 مليون حاج هذا العام. ويبقى أثر الحج ومشاعره خالدة في نفوس الحجيج، وتحتفظ القلوب بالذكريات العطرة مهما مر من السنوات.. لحظات فارقة محفورة لا تنسى. النية.. والدعوة الربانية.. استعدادات الرحلة الممتعة.. ملابس الإحرام والسفر والوصول ثم الدخول وترجي القبول.. يوم التروية.. وخيام منى.. مشقة الحركة وسط الألوف المؤلفة قلوبهم.. أجمل طعام وأطيب كلام.. ثم المرور من باب السلام.. ليوم عرفة من شروقه إلى الغروب.. وما تيسر من دعاء المودع.. للمزدلفة وصلواتها ومسائها الطيب.. لجمرة العقبة الكبرى وحل الإحرام ويوم العيد.. لطواف الإفاضة وأيام التشريق.. للزحام في كل مكان.. زحام المحبة والتجلي والعبادة.. للوداع وطوافه.. والتخفف من كل دنيوي أثقلك قبل دخول مكة.. والخروج منه كيوم ولدتك أمك. إن ذكرياتي في الحج حاضرة دائما، وما زالت الذاكرة تحتفظ بالعديد من المشاهد المؤثرة، أذكر عندما وقعت عيني على الكعبة المشرفة، شعرت بزلزال يهز وجداني، فارتجفت، إن "البيت العتيق" حاضر بجلاله بهيا في جماله، وكأنه ظل الله على الأرض، ومكانه الذي يحتضن المسلمين الذين جاؤوا إلى بابه متبتلين، وسمعت وقتها بداخلي صوت المبتهل الشيخ سيد النقشبندي "مَوْلاي إنّي ببابكَ قَد بَسطتُ يَدي.. مَن لي ألوذُ به إلاك يا سَندي؟"، فخرجت من قلبي دعوتي الأولى وتدفق بعدها فيض الدعاء، والبكاء.. غسلتني الدموع والاستغفار وبدأت التسليم الكامل لرب هذا البيت، خشوعا وصدقا لعزته وعظمته.. الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، ثم أكرمني المولى أثناء طوافي بملامسة جدران الكعبة، حتى أنهيت أشواطي السبعة فأمسكت بباب الملتزم، أستغفره وأتوب إليه وأتوسل إليه ألا يكون هذا آخر عهدي ببيته، وألا يردني إلى بلادي خائبا غير مستجاب الدعاء. ثم كان يوم السعد، يوم عرفة.. وزاد الابتلاء والمشقة وجاهدت ليكون يوما جميلا وتسلحت بذكر الله والصلاة، وحشدت ما تيسر من الدعاء لنفسي وأهلي وأصدقائي، وكل من وسطني في دعاء، راجيا من المولى الإجابة. الحج المقبول هو ميلاد جديد، وما أطيب أن يكون درة أعماله هو زيارة الحبيب والصلاة في مسجده الطيب بطيبة المدينة التي باركها الله وأنعم على أهلها من فضله ليكونوا من خير أهل الأرض.. وإذا أكرمك الله وتعطرت بعطر المحبة ومسحت بيديك على "شباك" النبي واستنشقت عبير روضته الشريفة فاعلم بأنك مقبول بإذن الله.. وأن الرسول شفيعك يوم القيامة.. وأن خيط المحبة موصول مع خير الأنام "سيدنا" النبي عليه أفضل الصلاة والسلام. أذكر يوم وقفت أمام قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام، يحيط بي آلاف من المحبين جاؤوا من كل بقاع الأرض ومن كل فج عميق، جاؤوا للحبيب يبحثون عن الحب المفقود والأمل المنشود، يصلون لله ويصلون على النبي، في رحاب سيد الخلق أجمعين، هنا الحبيب الذي تتمنى أن تبقى ما بقي من عمرك إلى جواره تستمد منه المحبة التي كانت سر عبقريته ومنطلق رسالته. السلام عليك يا سيدي يا رسول الله.. السلام عليك يا سيدي يا حبيب الله.. تتساقط الدموع ويقشعر البدن، عندما نستوعب أنه كان يوما يجلس في المكان نفسه بجسده الطاهر، الدموع ملمح مشترك عند أغلب من استطاعوا الوصول إلى هذه البقعة الشريفة الواقعة بين بيت الرسول ومنبره، التي قال عنها المصطفى إنها "روضة من رياض الجنة"، إن كل من حولي يستشعرون وجوده بقربهم.. يبكون وهم يتلمسون أثره، ويستنشقون عبير وجوده في محيطهم، يسترجعون ما نزل عليه من رسالة الخير، يجددون العهد له بأنهم مسلمون، وبأن الإسلام دين الحرية والمحبة، وأن المسلم هو من خفق قلبه بالإيمان فأصبح إنسانا. ويشاركني متعة اللحظة صوت كوكب الشرق أم كلثوم وهي تتغنى برائعتها "القلب يعشق كل جميل"، وهي تقول "جينا على روضة هلا من الجنة.. فيها الأحبة تنول كل اللي تتمنى»، قبل أن تختم "يا ريت حبايبنا ينولوا ما نولنا يا رب.. يا رب توعدهم يا رب.. يا رب تقبلنا يا رب". اللهم لا تطو صفحة الأيام المباركة إلا وقد سترت عوراتنا ومحوت سيئاتنا وقبلت توبتنا وفرجت همومنا واستجبت لدعواتنا وأصلحت أبناءنا وبناتنا وأزواجنا وغفرت لموتانا. اللهم اجعل أيام ذي الحجة، أيام نصر وعز وخير وفلاح ونجاح لنا ولجميع المسلمين. اللهم ارزقنا زيارة ما نحب مع من نحب يا الله. اللهم آمين.
مشاركة :