تتواصل في تونس المظاهرات والتحركات الاحتجاجية ذات الصبغة الاجتماعية، في وقت تتضاعف فيه ضغوط اللوبيات السياسية التي تهدف إلى إسقاط حكومة الحبيب الصيد، واستبدال حكومة إنقاذ وطني بها، رغم الدعم الذي تلقاه من قبل 4 أحزاب سياسية تتحكم في أكثر من ثلثي نواب البرلمان. واستفحلت الضغوط التي ترمي إلى إرباك حكومة الحبيب الصيد وبقية مؤسسات الدولة، وبينها رئاسة الجمهورية والبرلمان، بعد أن نظم آلاف من رجال الأمن مظاهرة ضخمة غير مسبوقة في ساحة رئاسة الحكومة، ثم اقتحموا مقرها رافعين شعارات تطالب بإسقاط رئيس الحكومة وقيادات أمنية مركزية. وقد وصف الناطق الرسمي باسم الرئيس السبسي هذه المظاهرات التي نظمتها نقابات الأمن أمام مقر رئيس الحكومة، والتي رفعت ضده شعار «ارحل»، وضد بعض كبار المسؤولين الأمنيين والسياسيين بأنها خطيرة وغير معقولة. من جهته، ندد خالد شوكات، الوزير المتحدث باسم الحكومة، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» بتجاوزات القانون التي صدرت عن بعض النقابيين الأمنيين، وتورطهم في الخلط بين تحقيق مطالب اجتماعية لرجال الأمن، وبين التهجم على المؤسسات السيادية في الدولة، وعلى رأسها مقر رئاسة الحكومة. وقد انتقد بيان صدر عن رئاسة الحكومة بشدة رجال الأمن الذين اقتحموا مقرها المركزي، وأعلنت عن «متابعتهم قضائيا»، فيما قال مصدر حكومي إن السلطات الرسمية فوجئت بتعمّد «عدد من المنتسبين للنقابة الوطنية لقوات الأمن الداخلي اقتحام حرمة مقر رئاسة الحكومة بالقصبة، وتعطيل العمل، وترديد شعارات سياسية وإطلاق تهديدات أبعد ما تكون عن العمل النقابي الأمين والمطالب المهنية، والتلفظ بعبارات نابية وغير أخلاقية، وهي تصرفات تدخل تحت طائلة القانون». لكن المسكوت عنه وراء هذا التصعيد، الذي يأتي في مرحلة تعرف تحركات شلت مرارا عددا من القطاعات، وبينها مؤسسات التربية والتعليم وإنتاج الفوسفات والمحروقات، بإضرابات قانونية وأخرى غير قانونية، هو تزامنه مع دعوات سياسية لإسقاط حكومة الحبيب الصيد وتشكيل «حكومة إنقاذ وطني»، في وقت تدور فيه في وسائل الإعلام أحاديث عن «بدائل» لحكومة الحبيب الصيد، يجري التشاور حولها في الكواليس تحت يافطة «حكومة إنقاذ وطني». وقد تزايد الرهان على هذا «البديل» للحكومة الحالية بعد تعاقب لقاءات رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ونجله حافظ، الأمين الوطني لحزب نداء تونس، مع نخبة من كبار المسؤولين السابقين في الدولة وفي قيادات الأحزاب السياسية، مثل رئيس الحكومة السابق المهدي جمعة، ومحمد جغام وزير السياحة والداخلية والدفاع في عهد بن علي والأمين العام لحزب المبادرة، وتوفيق بكار محافظ البنك المركزي الأسبق والنوري الجويني وزير الاقتصاد سابقا، وأحمد عياض الودرني الوزير مدير الديوان الرئاسي في عهد بن علي. وفي غضون ذلك تعاقبت «المبادرات السياسية والاقتصادية للإنقاذ»، التي صدرت خاصة عن أحمد نجيب الشابي، زعيم المعارضة في عهد بن علي، ومحافظ البنك المركزي السابق مصطفى كمال النابلي، ورئيس الحكومة السابق المهدي جمعة، والوزير الأسبق للاقتصاد والتجارة المنذر الزنايدي، والأمين العام السابق لحزب نداء تونس محسن مرزوق. وقد أسس كل من هؤلاء «نواة حزب وطني»، ضمن خطة واضحة لمحاولة «إنقاذ البلاد ضمن مشروع وطني جديد»، وسط تساؤلات إن كانت تونس تستطيع أن تخرج من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية المتراكمة بمجرد تغيير رئيس الحكومة، خاصة أن الغالبية الحالية في البرلمان تتمسك بمساندتها للحكومة الحالية، وسبقا له أن صوتت بنسبة الثلثين تقريبا لفائدة رئيسها الحبيب الصيد. ورغم صمت زعيمي الجبهة الشعبية حمة الهمامي، وحركة النهضة راشد الغنوشي، وعدد من نواب حزب النداء، و«الرباعي الحاكم»، فإن قياديين في حزبي النهضة والنداء، مثل البرلماني عبد العزيز القطي، والوزير السابق رضا السعيدي، ونائب رئيس حزب النهضة عبد الحميد الجلاصي يمن دون معارضتهم لسيناريو إسقاط رئيس الحكومة الحبيب الصيد و«جر البلاد إلى الفوضى»، حيث يعتبر هؤلاء أن المطلوب الآن هو التعجيل بإنجاز التحضيرات للانتخابات البلدية والجهوية المقررة لشهر أكتوبر (تشرين الأول) القادم. ومثلما يعكسه المشهد السياسي، حيث تتباين التقديرات والمواقف من «الوثيقة التوجيهية» الاقتصادية للحكومة الجديدة، فإن مواقف بعض الأطراف اليسارية والنقابية تؤكد على أن «التوافق السياسي»، الذي تحقق بصيغ مختلفة في تونس منذ البرلمان المؤقت في 2011. لا يعني احتمال التوصل إلى «توافق حول الخيارات الاقتصادية والاجتماعية»، على حد تعبير الخبير الاقتصادي الاجتماعي عبد الجليل البدوي. وفي المقابل، ذهب المنجي الرحوي، النائب عن الجبهة الشعبية، إلى أبعد من ذلك، حيث اعتبر أن «اليسار لم يعد دوما يسارا»، وأن اليمين أصبحت مواقفه متغيرة، بما يوحي فعلا بواحد من مظاهر «حالة عدم الاستقرار» في خيارات النخب والسياسيين والخبراء الاقتصاديين والاجتماعيين، في بلد يشهد أزمات داخلية وخارجية متعددة المصادر والألوان. لكن بصرف النظر عن تباين المواقف من «مبادرات الإنقاذ» فإن ما يلاحظ هو أن «أجواء حملات انتخابية سابقة لأوانها» برزت مجددا في تونس تحت يافطة تشكيل «حكومة الإنقاذ الوطني»، وهي نفس اليافطة التي رفعت في صيف 2013 عندما كان المعارضون لحكومة حركة النهضة الإسلامية وحلفائها يضغطون من أجل دفعها للاستقالة. فهل تكون تونس بصدد إعادة إنتاج نفس السيناريو؟ ويظل السؤال الكبير مرة أخرى: هل أن إخراج تونس من أزماتها يتطلب حلولا سياسية أم اقتصادية اجتماعية؟
مشاركة :