واحة الأحساء واحدة من أقدم المستعمرات البشرية على الأرض، وواحدة من أغناها في التاريخ، وأكثرها استمراراً في حقبه المختلفة، حاملة إرثاً حضارياً متنوعاً؛ ربطه بعض المؤرخين بالنخل والمياه، وآخرون بالحقول النفطية التي تموج تحت هذه الواحة، والمكتشفة مؤخراً في الثلث الثاني من القرن الميلادي الفائت. تعددت أسماؤها ووظائفها الاقتصادية في الممالك المختلفة، التي انتمت إليها، لكنها كانت ذات تأثير كبير في تاريخ أغلب الدول المعاصرة لنشاطاتها الزراعية والتجارية والصناعية والعسكرية؛ بدءاً من كونها واحات تموين للجيوش وقوافل التجارة واستراحة للعسكر أو التجار في العهدين الآشوري والبابلي ضمن أقدم فترات التاريخ المدوّن، مروراً بكونها مراكز نفوذ في عهد حضارة دلمون، ثم مركزاً صناعياً وتجارياً خلال فترات التنافس بين القوى الكبرى في الشرق والغرب (اليونان والحيثيين والآراميين والسريان، ثم الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية)، وليس آخراً مركز استقطاب مهم جداً خلال الفترة الإسلامية الأولى. هذا بالإضافة إلى ما سنورده من دورها الأكثر أهمية في العصر الحديث. هل يعي الأحسائيون هذا التاريخ المجيد؟ أم ارتبطت ذاكرتها الحديثة المتصلة بالماء والعيون والنخيل في مخيلة أهلها الطيبين المسالمين؟ في الواقع إن أسماءها العريقة الموغلة في التاريخ يمكن أن توظف بوصفها سمة مهيبة تضيف إليها صفة العالمية، وتجعلها ماركة عالمية. من يسمع مصطلح هجْر، أو هاجرا، كما وصفتها المخطوطات اليونانية، أو مصطلح البحرين، كما توصف في التاريخ الإسلامي، ويعرف قيمتها في التاريخ، لن يتنازل لها عن الريادة، لتكون مدينة عابرة، يظنها الناس من أهلها، وممن يعرفونها أو يزورونها، أنها تمثل تلك القرى والمدينة المنزوية بين البحر وحقول النفط. أما في العصر الحديث، فقد لعبت دوراً مهماً جداً في القرون الستة الماضية على أقل تقدير؛ فقد أدرك البرتغاليون قيمتها أثناء سيطرتهم على المنافذ المائية إلى شبه القارة الهندية، فبالإضافة إلى اهتمامهم بالحصون التي أنشأوها قرب مضيق هرمز، كانت لهم حاميات تتمركز في المناطق الساحلية بقرب الأحساء، بل وسمُّوا الخليج بحر الأحساء، كما تثبت ذلك خرائطهم القديمة، قبل أن يدب النزاع بين العرب والفرس على انتمائه العرقي. وفي عهد السيطرة التركية، لم يجد الأتراك أهم من الأحساء لإنشاء حامياتهم، التي توفر الحماية ومقرات الجند والولاة من جهة، وتعطيهم فرصة التموين من المياه والغذاء من تلك الواحة الغنية من جهة أخرى. وفي فترات الحكم السعودي، كان للأحساء دائماً الدور المهم في دعم المركز في الدرعية خلال الدولة الأولى والثانية. وعندما سيطر الملك عبدالعزيز في الدولة الثالثة على الأحساء، كان ذلك نقطة تحول باتجاه وحدة البلاد بكاملها. أما دورها الاقتصادي في هذا العصر، فهو ما لا يمكن أن يغفله مراقب أو محلل؛ فهي تحتوي في منطقتها الواسعة حقولاً نفطية تغذي العالم بمصدر الطاقة الرئيس من البترول، مثلما هي مخزن المياه والنخيل في شرق شبه الجزيرة العربية، بل ربما مثلت المنافس الأقوى للعراق، الذي يملك مياه الأنهار المتدفقة طوال العام. فهل يجور أي من الطرفين على الآخر؟ هذا ما لا يتمناه أي محب لهذه الواحة، ولا مخلص لوطنه؛ لكني زرت الأحساء خلال الأيام الماضية، ووجدت رحابة الناس وطيبتهم على ما هي عليه؛ غير أن المزارع التي تمثل جوهر هذه الواحة، بدأت تتقلص لمصلحة الأراضي السكنية، التي تغري المزارعين بتحويل مزارعهم إليها، لما تمثله أسعارها من قيمة كبيرة. فهل سيصبح تمر هجر وماركة الخلاص بالذات من صفحات تاريخ هذه الواحة، فتضاف إلى الكوت وبحر الأحساء، لتستزرع في مناطق أخرى؟.
مشاركة :