كثيرون هم الشعراء العرب الذين رحلوا عن هذا العالم خلال السنوات الأخيرة المنصرمة، وقليلون هم الذين احتفظت نصوصهم بحضورها الراسخ في الوجدان الجمعي، رغم قصر المسافة الزمنية التي تفصلنا عن غيابهم. وإذا كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش يتصدر بنصوصه الرائعة، التي لا يكف عشاق الشعر عن استعادتها، لائحة الشعراء المرشحين للصمود في وجه الزمن، ومعه بالطبع بدر شاكر السباب ونزار قباني وقلة قليلة، فإن شعراء كثراً من الراحلين تكاد أسماؤهم تؤول إلى ما يشبه النسيان التام، فيما كان بعضهم يملأ المنابر ضجيجاً ويتولى تسويق شعره بنفسه في الصحف والمهرجانات وسائر وسائل الإعلام. أما في إطار قصيدة النثر العربية فإن الأمر لايختلف كثيراً عما هو عليه في الشعر الموزون بشقيه الخليلي والتفعيلي، حيث يرسخ في ذهن القراء والمتابعين اسما محمد الماغوط وانسي الحاج، ويغيب العشرات من المتسلقين على شجرة الشعر دون وجه حق، كما من الأدعياء ومنتحلي الصفة وكتّاب الخواطر الإنشائية. في الذكرى الثالثة لغياب أنسي الحاج لا يمكن للقارئ المنصف والدارس الموضوعي إلا ان يشعر بجسامة الخسارة التي تكبدتها بفعل هذا الغياب الشعرية اللبنانية والعربية، إضافة إلى ما خسره النثر العربي من ألق اللغة وكثافة المعنى وفتنة الجمال المنبعث من أحشاء التأمل في الموجودات. فعلى الصعيد الشعري لم تكن لن مجرد باكورة عابرة من بواكير الشعراء او حدثاً عادياً يمكن القفز بسهولة عنه، بل كانت تفجيراً مدوياً للحساسية العربية التقليدية وانقلاباً عميقاً على الذائقة الجمالية الشائعة. فالقارئ هنا لا ينتظر التطريب الإيقاعي النمطي ولا المألوف من الصور والعبارات لكي يستبق الشاعر إلى خواتيمها المتوقعة، بل يقع في فخ المفاجآت والتراكيب الصادمة ويشعر بأنه مدعو إلى المخاطرة بما يعرفه عن الشعر لاستيلاد جماليات ومقاربات لم تكن في حسبانه ابداً. ولعل مقدمة الشاعر لديوانه لن هي البيان التأسيسي لقصيدة النثر العربية التي اعتبرها الحاج حراكاً باللغة نحو فضاءات جديدة ومواكبة لتغيرات الأزمنة الحديثة، لا وقوعاً من نوع آخر في نمطية جديدة أكثر وطأة من القوالب المعروفة لقصيدة الخليل. وهو ما يعبر عنه الشاعر بقوله: نحن لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى، ولا ننعى التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه. كل مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل. فكما أن هناك رواية وحكاية وقصيدة وزن تقليدي وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر. والحقيقة ان انسي الحاج ظل طوال حياته مخلصاً لتنظيراته النقدية ورؤيته إلى الشعر، كما لبحثه الدائم عما يحرره من اليقينيات المطلقة. فالنزعة التدميرية التي عكسها ديوانه الأول على المستويات اللغوية والجمالية والأخلاقية ما لبث ان هدأ أوارها مع عمل جديد، وأخلت أماكنها لبناء العالم البديل الذي تشكل الحرية والحب قطبيه الأساسيين. ولم تمض سنوات قليلة على تقويض انسي لأسس اللغة الجمالية والتعبيرية حتى كانت لفتة في ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة تشف إلى أبعد حدود الشفافية وتصفو إلى ابعد حدود الصفاء وتتصالح مع العالم فوق ارض مؤثثة بالشغف والحب: انا شعوب من العشاق/حنان لأجيال يقطر مني../ ما صنعتْ بي امرأةٌ ما صنعتِ/ رأيت شمسك في كآبة الروح / وماءك في الحمى/ وفمك في الإغماء/ورددتِ علي الحب/ حتى لا أجد إعصارا يطردك /ولا سيفاً/ ولا مدينة تستقبلني من دونك. ولعل ديوان الحاج الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع هو في بعض وجوهه البيان الثاني لصاحب ماضي الأيام الآتيةحيث حلت الأنوثة الروحية محل الجسد الأنثوي الشهواني، والصفاء الداخلي محل الفوضى المطلقة وخراب الداخل. واذا كان الشاعر الفرنسي أراغون قد اعتبر ان المرأة مستقبل الرجل فإن أنسي الحاج قد رأى فيها حاضره وماضيه أيضاً، ورأى في الأنوثة خلاص العالم من فظاظة الرجال وحروبهم وأحقادهم المتجددة. على ان نثر أنسي الحاج لا يقل في رشاقته وعمقه واستعاراته المباغتة وثرائه الجمالي عن شعره. لا بل إن نثره في كلمات وخواتم يتجاوز شعره في الكثير من وجوه الفتنة والترسل العفوي والبعد عن التكلف وموجبات الصنعة. لقد بدت تلك الشذرات النثرية القصيرة التي نشرها أنسي في غير مطبوعة لبنانية شبيهة باللقى المعرفية والجمالية التي ندر مثيلها في نثرنا العربي الحديث، والتي تذكّر من بعضها وجوهها بشذرات نيتشه وسيوران في الأدب الغربي. وفي حين ان شعراء عرباً مكرسين قد أتعبهم التقدم في السن وأوقع شعرهم ونثرهم في الرتابة والتكرار، فإن أنسي الحاج ظل يبحث للغة عن مواطئ غير مسبوقة، وظل قادراً على مباغتتنا وإدهاشنا حتى رمق حياته الأخير. شوقي بزيع
مشاركة :