الجغرافيا الخيالية تصنع التاريخ

  • 2/29/2016
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

تصوّرُ الإنسان عن نفسه، أو تصور الأمة عن نفسها، ربما هو ما يجعل التاريخ ممكناً، وكذلك تاريخ الجماعة، ولأن التصور مزيج من خيال وواقع، أو هو ممكن وراهن، فهو في الحالتين جغرافية خيالية، يمتلك فيها الواقع تضاريس أكثر شفافية وحركة وتحوّلاً، ويمتلك فيها الأفراد هذا المستوى نفسه من الشفافية والتحوّل. هل التاريخ والتراث، وكل ما كان في الماضي، هو ما كان أم هو ما استطاع البشر ابتكاره؟ يحرص المؤرخون والباحثون في تضاريس الماضي عادة على تنقية الوقائع وتصفيتها من الشوائب والأهواء والخيال ربما، حتى يتمكنوا من إعادة كتابة التاريخ وبناء الرواية على أساس ما حدث فعلاً، لا على أساس ما تصوّره أو تخيّله أو طمح إليه أناس الماضي، وما نقله عنهم أناس الحاضر. إلا أننا نلحظ أن هذه التنقية تستبعد شيئاً جوهرياً من مسارات التاريخ الموروث؛ إنها تستبعد ما فعله الناس بهذه الوقائع حقاً، وما عاشوه، أي كل ما جعل تاريخهم ممكناً. الشخصية التاريخية مثلاً، ولتكن سيرة بطل من أبطال الملاحم الشعبية، لا تظلّ في وعي المجتمعات مجرد سلسلة من الوقائع يمكن البرهنة على وجودها التاريخي، بل تكتسب هذه الشخصية ماهية أخرى في وعي هذه المجتمعات، وتتحول إلى أسطورة في المقام الأول، يعلو فيها التاريخ على المكان والزمان، ويمتلك حرية أن يمثل في أية لحظة وفي أي مكان. في هذا المدى الخيالي تتخلق جغرافية أخرى للتراث هي ما ندعوها الجغرافية الخيالية التي أنتجت التاريخ كما نعرفه وتجاوزته. ومن دون وعي هذه الجغرافية الخيالية سيبدو السياق التاريخي وأحداثه كلاهما غامضاً ويصعب فهمه. وسيقل فهمنا لهذه المجتمعات نفسها لأنها في الحقيقة لم تعش حياة النبات والصخور بقدر ما عاشت حياة تتفاعل فيها عناصر العالم الواقعي مع عناصر العالم الخيالي. ولا يعود صحيحاً القول إما أنها عاشت وفق وقائع وقوانين المادة وطبائعها، أو عاشت وفق خيالاتها وخرافاتها، بل الصحيح إنها عاشت وفق هذا وذاك معاً. إننا نعول كثيراً على الوصول إلى ما حدث بالفعل، وننسى في الطريق إليه أن ما حدث بالفعل لم يكن في جانب كبير منه يخضع لقوانين شبيهة بقوانين الفيزياء الميكانيكية، بل خضع لنوع آخر من الفيزياء؛ فيزياء التحولات التي تطرأ على الشخصيات والأحداث، فتخرجها من حقل الزماني إلى حقل اللازماني، والعكس بالعكس. أي من الجغرافية الطبيعية إلى الجغرافية الخيالية. إنها فيزياء اللايقين واللاتحدّد والاحتمالات، إنها فيزياء السياق المتغير والمغيّر. فكم من حدث في التاريخ نظر إليه الناسُ على أنه تكرارٌ بكل عناصره لحدث في الماضي، بينما نجده مختلفاً باختلاف السياق. ثمة علائقية تتخلق بفعل السياق، فتمنح العناصر معنى مختلفاً عما كان عليه معناها في سياق آخر. وتخضع هذه التحولات لمستوى المجتمع المعني، ثقافياً ومعرفياً، أي حضارياً بالمعنى المعاصر. ولهذا السبب نجد أن دراسة الموروثات، وفصل ما هو واقعي عما هو خيالي فيها، لا يفيدان كثيراً في فهم وضعية مجتمعات عدة، لأنها لم تعش ماضيها الموروث على صعيد الواقعة وحدها، ولا أنتجت ما أنتجته لأنها شبيهة بعناصر كيميائية في بوتقة حكمتها قوانين التفاعل الكيميائي، بل عاشت ماضيها وفق ما أدخلته أيضاً من تحولات على الشخصيات والأحداث. إنها تحوّل الشخصية الكبيرة إلى فولكلور، إلى خرافة، وتعيش حياتها على صعيد ما ينتجه هذا من طقوس وشعائر. يقودنا هذا إلى القول بأن العناصر الخيالية تكاد تكون مفتاح فهم بنية هذه المجتمعات؛ ثقافتها واقتصادها السياسي والمنعطفات التي مرت بها. وبوضوح أكثر؛ إن دراسة التاريخ كما هو في المخيلة الشعبية (التاريخ الخيالي) تفيدنا أكثر في معرفة الناس والأمكنة والأحداث، وتظهير ما حدث وتفسير أساب حدوثه. صحيح أن هذا المجال مفردٌ الآن بوصفه دراسة في الخيال الشعبي أو في المرويات الشعبية، إلا أن هذا الإفراد، مضافاً إليه ندرة إقامة ترابط بينه وبين الدراسة الاجتماعية والتاريخية، يضع بين أيدينا جانبين؛ التاريخ كما صنع فعلاً (الجغرافية الخيالية)، والتاريخ كما نريده ونفترضه (الجغرافية الطبيعية)، مع تهميش الجانب الأول وإعطاء الجانب الثاني مركز الصدارة، رغم أن الجغرافية الخيالية هي الأكثر دلالة على وضعية المجتمعات الإنسانية، تلك المجتمعات التي ما زالت حتى العصر الراهن تعيش حياتها بعد أن ترفعها إلى مستوى الأسطورة وليس ما دون ذلك. إذا جرّدنا الحدث التاريخي المتوارث من اللامعقول الذي يحيط به، نستطيع كتابة سلسلة متكاملة من الأسباب والنتائج المتلاحمة منطقياً وفق المنطق الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي في ضوء فلسفات بارزة، إلا أن ما يبقى بين أيدينا بعد هذا ليس الماضي كما عاشه الناس فعلاً، بل كما نريدهم أن يعيشوه. وهكذا تشيع الاحتجاجات على ما يدعى أحياناً نقص الوعي، أو نقص المستوى المعرفي. وما يدفع إلى هذا النوع من التجريد افتراض مسبقٌ بأن للتاريخ قوانين، وأن هذه القوانين تسري على الطبيعة والمجتمع الإنساني على حد سواء. هذا الأمر لا يصح عادة، لأن التاريخ لا يكرر نفسه أبداً مهما بدا من تماثل بين العناصر القديمة والجديدة. الشخصية التاريخية نموذج لهذا النوع من التاريخ، فهي جملة عناصر أدخلها الناس ومازجوا بينها وحولوها إلى خرافة، وأنتجوا بشروط هذا التحوّل ما يُعرف بتاريخهم. وهذه الظاهرة لا سبيل إلى تكرارها حرفياً. وإن حدث وأن حاول أحدهم تكرارها فلن ينتج سوى مهزلة أو صورة كاريكاتورية، أو مأساة في أغلب الأحيان، ومثال ذلك ما يحدث الآن من محاولات لاستنساخ مجريات أحداث وأشخاص ومشاهد من تاريخنا عفا عليها الزمن، محاولات تختلط فيها الأزياء والرايات الشاذة بالمهزلة، وتختلط هذه من جانبها بالمأساة. فهم الموروث التاريخي بوصفه جغرافية خيالية لا يقلل من قيمته، فهو بهذه الصفة قادرٌ على إمدادنا بمفتاح فهمه وإدراك متضمنات وقائعه، وهو بهذه الصفة جاءنا بالمنجزات التي تملأ كتب التاريخ، وهو بهذه الصفة قادرٌ على تقريبنا من وعي عصورنا التاريخية الماضية. والمتأمل حالياً في جاذبية ما تسمى نقدياً الواقعية السحرية في آداب أمريكا الجنوبية، يدرك بالطبع كيف يمازج الكتاب بين الجغرافية الخيالية للواقع الاجتماعي وبين الجغرافية الطبيعية في سياق واحد. أساس هذه الممازجة ليس رغبة في المثير والخيالي، بقدر ما أنه طريقة ممكنة لفهم هذه المجتمعات التي تعيش حقاً لا مجازاً حقيقتها على هذين الصعيدين. وليس من المجدي التساؤل أمام ما يبدو مخزوناً هائلاً من الخرافات والأساطير عما إذا كان هذا هو ما حدث فعلاً، أو ما يمكن أن يحدث، بل المجدي التسليم بحقيقة أن فرادة الحادثة التاريخية، أو التجربة التاريخية لمجتمعات بأكملها، نابعة من تدخل مخيلتها الخصبة في صياغة سلوكها وأفعالها وشخصياتها وردود أفعالها، وأن هذه الصياغة هي التي تقودنا إلى فهم هذه المجتمعات وفهم موروثاتها. لكل عصر أوهامه، هذا قول صحيح، ولكن الأصح أنه من دون هذه الأوهام لن يكون العصر ممكناً، ولن تتدافع الجموع، ولن يظهر الأبطال. وببساطة أشد، لن يكون هناك تاريخ للكائن. الموجودات الوحيدة التي لا تمتلك أوهاماً هي الشجر والحجارة والتراب.

مشاركة :