في ظروف المواجهات التي تخوضها المملكة اليوم على أكثر من جبهة وصعيد، هل كان ينتظر من الإعلام السعودي، إلا أن يكون في مقدمة صناعة الوعي بالمخاطر وتعميق الانتماء للوطن، وحشد المواقف لبناء جبهة داخلية تستعصي على الاختراق؟! أين تكمن مشكلتنا في صناعة إعلام متفوق يدرك عمق التغييرات في مرحلة مختلفة، ويطور أدواته ورؤيته ومادته، لتكون بمستوى المواجهة.. بل وبمستوى التحدي من خلال بناء منظومة إعلامية متقدمة.. تتمتع بحضور محترم في الوسط المحلي والخارجي. أين تكمن مشكلتنا في صناعة إعلام متفوق يدرك عمق التغييرات في مرحلة مختلفة، ويطور أدواته ورؤيته ومادته، لتكون بمستوى المواجهة.. بل وبمستوى التحدي من خلال بناء منظومة إعلامية متقدمة.. تتمتع بحضور محترم في الوسط المحلي والخارجي؟ هناك من يرى اليوم أن الزمن تجاوز الإعلام التقليدي إلى عوالم أخرى، تتجسد في مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت منبراً لمن لا منبر له، ولكنه منبر مضطرب ومشوش، وربما يميل جزء واسع منه للتعبير عن مشاعر وانطباعات أكثر منه قراءة دقيقة وعميقة لمشهد وطني يتطلب الكثير من الجهد والعمل والبحث والاستقصاء. إلا أن تلك المنابر أصبحت تملك القدرة على تشكيل الرأي العام أو التعبير عنه بطريقتها بصرف النظر عن طبيعة ذلك التشكيل. استقطاب بعض الكفاءات للدفاع عن قضايانا، ليس عنوانه البقاء في حضن مفردات لا يعيش أولئك دونها. ليست القضية اليوم فقط هي حالة صراع بين توجهات فكرية، تستعاد بين الحين والآخر.. القضية أبعد مدى من ذلك التوصيف النخبوي، إنها تطال أيضاً بشكل أو بآخر مجموعاً بشرياً في الداخل يتأثر بها، وهو يبحث في وجوه أولئك عن ملامحه وآماله وتطلعاته.. فإذا هو يجدها مجرد حرائق صغيرة لا من أجل حلم بغد أفضل يتفيأ ظلاله أبناء الوطن برمته. بعد أحداث ما نهاتن في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، ظهرت مجموعة من الأقلام التي استمزجت بعض خبرتها المحلية عن حالات التطرف، لتصبح بين عشية وضحاها بيت الخبرة في هذا الشأن. وظلت تعيش في دائرة لا تغادرها وكأن لا مستقبل لها دون أن تكون في خضم صراعاتها وعناوينها.. بل إنها ظلت تتعمد الإثارة والصخب من أجل أن تظل في صدر وواجهة الحضور وكأنها تؤكد أهمية الحاجة إليها.. بينما عملت بطريقة أو بأخرى على زيادة الفرز والاصطفاف، ولم يبق لها من عناوين مرحلة سوى التحدي والإثارة المستمرة للبقاء في المشهد، حيث تحولت من النقيض إلى النقيض ومن تطرف إلى تطرف.. إلا أن تطرفها الأخير كان سباحة في بحر متلاطم سمته الهيجان والإثارة والاستمتاع بالوهج الإعلامي أيا كان لونه ومصدره. التطرف في صناعة الأعداء سمة إعلاميين وكتّاب قلّما وجدت الموضوعية أو الاعتراف بالأخطاء طريقاً إلى منشوراتهم أو برامجهم.. والاختباء تحت عناوين الصراعات الفكرية على تعدد درجاتها لن تعمي الأبصار أحياناً عن عبيثة الممارسة.. ليظل أولئك في الصورة التي هي غايتهم ومبلغ سرورهم بل وشعورهم أن وظيفتهم ودورهم يتراجع إذا لم يكن ثمة صراعات حولهم. المراجعة والتقويم المستمر سمة العمل الناضج والدؤوب لصناعة إعلام حيوي وفاعل ومؤثر في سياق تنمية الوعي وبناء الأولويات. وقد يكون مهماً في هذه المرحلة مراجعة الخطاب الإعلامي، خاصة ذلك الذي يتخذ من الخارج مقراً وتعمل فيه مجموعات تبث أحياناً عناوين صادمة، وتمارس دوراً لا يمكن التعويل عليه في بناء وعي إنساني أكثر عمقاً، مهما تذرعت تلك الوسائل بطبيعة الممارسة الإعلامية في عالم التنافس والصراع المتأجج. والمعول عليه أن يكون إعلام الداخل المتجاوز للخارج هو طريقنا لتطوير إعلام متقدم وموضوعي يقترب من الحقيقة ويلامس أبعاد وهموم ومستقبل وطن لا يتوقف عند حدود الإثارة والتلبيس اليومي وزيادة جرعات الرفض والاتهام وحشد الفرقة وبث القلق.. إعلام لا يتوقف عند الهوامش.. بل يعمل من أجل القضايا الأساسية، التي لا عنوان لها سوى البحث في ملامح المستقبل الذي تاهت ملامحه وسط تلك الحرائق الصغيرة.. بينما الحرائق الكبرى تحيط بنا من كل جانب. وكما علينا أن نراجع مشروعنا الوطني الاقتصادي فيجب مراجعة مشروعنا الإعلامي.. فمجتمعنا اليوم من أكثر المجتمعات استخداماً لتقنيات التواصل الاجتماعي ومن أكثرها متابعة لقضايا اليومي، ومن أكثرها نشراً لمواد تتجاوز بمسافات ما ينشر في قنوات الإعلام المحلية.. والأهم اكتشاف أبعاد التشكيل الذهني المستمر لرأي عام لم يعد يتوقف عند حدود الاطلاع على جريدة يومية أو قناة فضائية. ربما كانت الحاجة في يوم ما لفضائيات وصحف تعبر عن مصالح المملكة خارج الحدود أمراً مهماً، إلا أن اليوم الذي نعيشه مختلف تماماً. فالمصادر متعددة وقد مكنت الجميع من التعبير عن ذاتهم ورؤاهم ومواقفهم.. مما يجعل وسائل التواصل الاجتماعي وقنواته التقنية المعبر عن رأي عام - مهما أصابه من تشوهات - فيجب الاستفادة من معطياته وتقدير أبعاد التحول في الذهنية العامة وفهم مسارات المواقف التي تصنعها تلك الوسائل قبولاً ورفضاً عبر سجالاتها اليومية. ومن الغرابة أن تكون بعض وسائل الإعلام ومصادره الخارجية المحسوبة على المملكة.. أن تكون نقطة ضعف في مواجهة المخاطر التي تحدق بنا اليوم وتتطلب المزيد من الاحتشاد حول الهدف والوعي بالمصير وإدراك حجم الخطر وإعادة ترتيب أجندة المواجهة التي تخوضها المملكة عسكرياً ودبلوماسياً.. مما يتطلب إجراءً عاجلاً لمواجهة هذا الخلل الذي اتسع خرقه وأصبح أكثر وضوحاً وأصبح مصدراً للقلق وزيادة التوتر في وقت نحتاج فيه لمزيد من الاصطفاف حول القضايا الأساسية الكبرى، لا الاستمرار في وحل التنازع حول مسائل تدور في فلك أشخاص ورؤى ضيقة وربما أهداف لا علاقة لنا بها أو حتى تستخدم ضدنا بشكل أو بآخر. تطوير إعلامنا الداخلي سيمكنه من تعميق الصورة الإعلامية عن وعينا وقدرتنا على مواجهة الأزمات. ما الذي ينقصنا لصناعة إعلام متقدم موضوعي يكون تجسيداً للوعي الوطني وتوظيفاً للإمكانات المتوفرة وتعزيزاً لحضور إعلاميين وكتّاب ومنتجين قادرين على المنافسة والحضور إذا ما مكنوا من ممارسة عملهم بقدر مسؤول من الحرية والشفافية.. أليس هو المعبر لتعميق الثقة بالذات والقدرة على ممارسة مهمة إعلامية متفوقة وصحافة متجاوزة لفكرة البقاء في حضن المفردات القديمة؟ لمراسلة الكاتب: aalqfari@alriyadh.net
مشاركة :